top of page

داركُ مقداركُ: معاني وتجلياتُ البيتِ في الذاتِ الفلسطينية- كنموذج[1]

 

[1] ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي عن الصحة النفسية الذي أقامه المركز الفلسطيني للأرشاد تحت عنوان  " العلاج النفسي، المعالج/ة والعلاقة العلاجية في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين" – 20 و21 اذار 2023 – مقر جمعية  الهلال الأحمر.

يلعبُ البيتُ دوراً أساساً في الحياةِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ للإنسان، فهو بيئةٌ تأسيسيةٌ في الذواتِ البشريةِ وفي الحياةِ العائليةِ والاجتماعية. يقعُ البيتُ في فلسطين في مركزِ الصراعِ على المكانِ والإنسان منذ عقود طويلة. فهناكَ البيتُ المهجورُ والمهدومُ والمهددُ بالهدمِ، ولكن أيضاً البيتُ الممنوعُ والبيتُ الذي يصبحُ سجناً. تحاولُ هذهِ المداخلةُ أن تلقيَ الضوءَ على البيتِ الفلسطينيِ، من خلالِ المعاني التي تبرزُ للبيتِ في الحياةِ النفسيةِ للأفرادِ في العلاجِ من خلالِ الأحلامِ. ولكن أيضاً خارجَ العيادةِ في خبرةِ الهدمِ الذاتيِ للبيت. ترتكزُ المداخلةُ على الفهمِ التحليليّ النفسيّ للبيتِ في علاقتهِ مع الأنا والذاتِ؛ من خلالِ استخدامِ منهجيةِ النموذجِ التي تقدمها الأمثالُ الشعبيةُ وأحلامُ المنتفعينَ/اتِ في العلاجِ وقرارُ الهدمِ الذاتيّ بالنسبةِ للمقدسيين.

 

مثال: البيتُ وملكيةُ الأرضِ.

حتى العام 1856 كانَ استخدامُ الأرضِ في سوريا الجنوبيةِ كما باقي أراضي الدولةِ العثمانيةِ، يخضعُ لنظامٍ شبهِ إقطاعيٍ، تحكمهُ حسبَ الأزمنةِ قوىً محليةٌ تتوسعُ وتتقلصُ مناطقُ نفوذِها حسبَ سيطرةِ تلكَ القوة. لكنَّ في ذلكَ العامِ قامَ السلطانُ عبدُ المجيدِ الأولُ تحتَ تأثيرِ بريطانيا ا العُظْمى وقوىً أوربيةٍ بإصدارِ فرمانٍ سلطانيٍ من أجلِ الإمساكِ بزمامِ الأمورِ في سوريا المضطربةِ، فجاءت التنظيماتُ لتكونَ بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ في ملكيةٍ الأرضِ في سوريا الجنوبيةِ. في العامِ 1855 كانَ يوهان لودفيغ شنيلير المبشرُ اللوثريُ الألمانيُ السباقُ لإنشاءِ أولِ مبنىً خارجَ سورِ القدسِ القديمةِ، لكنهُ لمْ يستطعِ البقاءَ فيهِ لوقتٍ طويلٍ بسببِ هجماتِ اللصوصِ وقطاعِ الطرق، لكنَّ قانونَ التنظيماتِ لمْ يكنْ فقط يتعلقُ بالأراضي ولكنْ أيضاً بتنظيماتٍ إداريةٍ طالتْ العسكريةَ والإداراتِ، حيثُ برزَ للوجودِ في تلكِ السنواتِ بلدياتُ المدنِ الأساسية، وأنشأَ الجيشُ العثمانيُ بعضَ مواقعِ الحراسةِ في الطريقِ منَ القدسِ إلى يافا؛ مما شجعَ شنلير للعودةِ لذلكَ المبنى. لمْ يكنْ شنلير الوحيدَ المهتمَ بالبناءِ خارجَ السورِ، فجيمس فان القنصلُ الإنجليزيُ في القدس، كانَ قدْ اشترى "كرمَ الخليلِ"  قطعةُ أرضٍ محاذيةٌ للسورِ من الخارج في العامِ 1852، وهوَ أيضاً تشجعَ في ذلكَ العامِ فوظفَ عمالَ يهودٍ من أجلِ بناءِ أولِ منزلِ في الحي ( كيرم ابرهام) بالإضافةِ لصهاريجِ مياه، ولمْ يكنْ صموئيل غابوت المطرانَ الانجليكاني الثاني في القدسِ منذُ العامِ 1846 أقلَ طموحاً فهو الآخرُ شرعَ في ذلكَ العقدِ في بناءِ مدرسةِ المطران غابوت، وكانَ بارون انجليزيٌ و"محسنٌ يهودي" اسمهُ موسى مونتيفوري قد اهتمَ بسوريا الجنوبيةِ منذُ زارها بعدَ زلزالِ 1836، قدْ شعرَ أخيراً أنَّ الفرصةَ لتحقيقِ أحلامهِ وأحلامِ الأثرياءِ اليهودِ في الاهتمامِ باليهودِ القاطنينَ في الشامِ قدْ أصبحتْ حقيقةً، فكانَ وراءَ إنشاءِ أولَ الأحياءِ اليهوديةِ خارجَ أسوارِ المدينةِ "مشكنات شأننيم" في العامِ 1861، تبعتهُ الجمعيةُ الأرذوكسيةُ الإمبراطوريةُ في بناءِ المسكوبيةِ لأجلِ خدمةِ الحجاجِ الروسِ للقدسِ. وإذا كانَ هذا التاريخُ العمرانيُ للقدسِ لحظةً لانهيارِ سورِ سليمانَ القانوني، الذي أرخَ للقدسِ كمدينةٍ عربيةٍ تحتَ الحكمِ الإسلاميِ محاطةٌ بسورٍ يحميها، فها ذا تنفلقُ القربةُ والخارجيُ يحاصرُ الداخلي، ومنذُ الآن فهويةُ القدسِ تتجاوزُ أناها المحاطةُ بسور، وفي خارجِ القدسِ بدأتْ حربٌ محمومةٌ حولَ تملكِ الأراضي، أصبحَ امتلاكُ الأرضِ مركباً جديداً أحضرتهُ التنظيماتُ كجزءٍ من عمليةِ تحديثٍ هائلةٍ كانَ يصبوا لها السلطانُ، أصبحتْ الأراضي والعقاراتُ مواضيعَ يمكنُ رهنُها وبيعُها وشرائُها، أصبحتْ موضوعَ تملكٍ فرديٍ أو جمعي؛ ليسَ فقطْ للشاميِ الجنوبيِ ولكنْ للأجانب، بعدَ أنْ كانت أرضيةً وبيئةً تعيشُ فيها الأسرُ، ويعملُ فيها الفلاحين، فشكلَ ذلكَ دخولاً قصرياً على طبيعةِ المكانِ والعمرانِ المحلي، أيْ في المستوى الفرديِ دخولُ المبضعُ للجسدِ من أجلِ التجميلِ والعلاجِ والتحسينِ، وعلى المستوى الجمعيِ دخولُ الآخرينَ في جسدِ الأراضي التي يقومُ عليها مجتمعٌ من أجلِ التحديثِ والإعمارِ والتطوير، وهناكَ زلزلتِ الأرضُ تحتَ قواعدِ البيتِ الفلسطيني.

 

البيت كلغةٍ.

في العربيةِ نقولُ بيتٌ ومنزلٌ ودارٌ ومسكنٌ عن ذلكَ التركيبِ الماديِ الذي يشكلُ المساحةَ الحيويةَ للحياةِ الخاصةِ والعائلية، ولكنْ ما معنى البيتُ والمنزلُ والدارُ والمسكن، أما البيتُ فأنهُ المكانُ الذي فيه مبيتٌ، وأما المنزلُ فهوَ مكانٌ نُزِلَ فيهِ بعدَ رحيلٍ، وأما الدارُ ما تدورُ فيهِ الأمورُ، وأما المسكنُ فهوَ حيثُ توجدُ السكينةُ. لكنْ إذا ما كانَ البيتُ من فعلِ المبيتِ في المكانِ؛ والمنزلُ من فعلِ النزولِ في المكانِ؛ والدارُ من فعلِ الدوران؛ والمسكنُ من السكونِ، فإن هذا التركيبَ المادي البشري في الأسماءِ الأربعةِ يعلنُ عن أربعِ صفاتٍ أساسيةٍ للبيتِ المبيتُ، الاستقرارُ، ودورةُ الحياةِ العائليةِ والهدوءُ وراحةُ بالِ. وهي لا شكُ مجموعةٌ من الصفاتِ التي أهمت التحليلُ النفسي، فحيثُ يكونُ مبيتكَ يكونُ حلمكَ؛ ولا بدَ أن تكونَ مستقراً وجزءً من عائلةٍ ومطمأنَ البالِ، وهكذا. ولو نظرنا إلى الفهمِ التحليليِ الحديثِ للبيتِ، رباعيُ الاسمِ في العربيةِ، لوجدناهُ يشددُ على أنهُ لولا البيتُ لما توفرَ الحلمُ، وأنَ غرفةَ نومِ الوالدينِ المركزُ الذي تشعُ منهُ التفاعلاتُ الأخرى من العائلةِ، وأن الاستقرارِ ضروريٌ من أجلِ الرفاهِ العائلي، وأنَّ البيتَ يعكسُ العلاقاتُ العائليةُ بما يدورُ فيها من مشاعرَ وأفكارٍ، وأنَ البيتَ الجيدَ بيتٌ يحققُ السكينةَ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ النحل 18، فالسكنُ في البيوتِ اية للسكون، ﴿ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ﴾ الحجر 82 تحققُ الأمنَ والاستقرارَ والسكينة. أما أبو تمامَ فإن له رأيٌ في المنزلِ ذو طبيعةٍ تهمٌ التحليلَ النفسي بشكلٍ خاص، في قوله:

كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى                                       وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ

يشيرُ الشاعرُ إلى بيت ِالطفولةِ المنزلِ الوالدي، ذلكَ المنزلُ الذي يشكلُ الانفصالَ عنهُ تحرراً واستقلالاً، لكنهُ يبقى في ذواتِنا نحن مركزٌ لها في علاقاتها وذكرياتها ومواضيعها، حتى لو انتقلنا لمنازلَ جديدةٍ وأسسنا عائلةٍ أخرى، كما يوضحُ لنا ذلكَ الفهمَ التحليلي النفسيِ الزوجي والعائلي، كما سيتضح لاحقا.

ويرى ابن الرومي المنزلَ موطناً:

 

 

وإذا ما فرغنا من هذهِ المقدمةِ البسيطةِ جداً عن معاني المنزلِ في لغتنا الأم، وانتقلنا إلى الأمثالِ الشعبيةِ الفلسطينيةِ كما وردت في معجمِ الأمثالِ الفلسطينيةِ (لوباني، 1999، 233-273) لوجدنا مجموعةً من الصفاتِ والعلاقاتِ التي ترتبط بالبيتِ، البيتُ الجيدُ "البيت اللي بتفوت له شمس، ما بفوته حكيم" وبعيداً عن الفوائدِ الصحيةِ للضوءِ لا يمكنُ إغفالُ المعاني العميقةِ للضوءِ والنورِ بمعانيهِ الروحية. ولكن أيضاً البيتُ الجيدُ "دار بلا جار تسوي الف دينار". ولدينا البيتُ المطعمُ "البيت إلي بتوكل منه لا تدعي عليه بالخراب". والبيتُ الذكوريُ "البيت إلي راس ماله مرة كرما له لورا" و"بيت رجال ولا بيت مال" و"بيت السبع بخلاش من العظام". وهناكَ بيتُ الاحتضانِ الوالدي "البيت إلي رباني ما راح وخلاني" و"دار ابوي دائما مفتوحة" و"البيت بيت امي وأبوي، لا تقبحي يا مرة أبوي". والبيتُ الخاربُ "البيت إلي فيه ثنتين خراب من سنتين". والبيتُ كأهمِ موضوعٍ "البيت أول ما بينشرى وآخر ما بنباع". ونجدُ بيتَ النوعِ الاجتماعيِ للأطفالِ "بيت البنات خالي" و"بيت الشباب عذاب وبيت البنات خراب". وبيتُ المرأةِ كأساسٍ في العائلةِ "بيت بلا مرأة، كنه مقبرة". وبيتُ الرعناءِ "بيت الرعنا، مجمع الخلان". وبيتُ تقسيمِ العملِ "وبيت المونة ما بتسلم لمجنونة" و"بيتها ما قشته، راحت للجامع ورشته" و"بيتي قبري وعيشي صبري". والبيتُ المهددُ بالسلبِ "البيت بيت ابونا، وأجوا الغرب يطحونا". والبيتُ من دون حدودٍ "بيت بلا باب مأوى للكلاب". ونجدُ البيتَ الذي لا يقومُ فقط على المالِ "بيت مال ما ربى أطفال". والبيتُ كمستهلكٍ مستمرٍ "البيت قد ما تحط فيه بظل يقول بدي". ولكن وصف البيتَ بكونه حامٍ وساترٌ للحميميةِ "البيت ستار العيوب". والبيتُ الذي لا يتعلقُ بحجمهِ "بيت الضيق بيوسع الف صديق" و"الدار مكتوب على بابها ما بتحب إلا مثل صحابها". فالبيتُ في هذهِ الأمثالِ الشعبيةِ يعكسُ تارةً شخصيةُ أصحابهِ وتارةً صفاتُ قاطنيهِ وتارةً حدودهُ وتارةً أهميتهُ كموضوعٍ أساسيٍ وتارةً احتضانهِ الوالديِ، ولكن أيضاً طبيعتهُ الذكوريةُ الأبويةُ، فالبيتُ يقيمهُ رجلٌ يستقلُ عن والديهِ في هذهِ المعاني، وكما يتعارفُ عليهُ في التقاليدِ، فالزوجُ والأبُ هنا ألفُ البيتِ، والمرأةُ بأهُ، والأطفالُ جيمهُ ودالهُ وهكذا. وهنا قد يتساءلُ متسألٌ عن عدمِ التوقفِ على الاستخدامِ الثاني للمعنى واستخدامُ كلمةِ البيتِ والدارِ، وهيَ الصفاتُ المتعلقةُ بغرفةِ النومِ ودورانُ الحياةِ العائليةِ، فكلتا الكلمتينِ تستخدمانِ في العربيةِ لتدللَ على البيتِ كتركيبٍ ماديٍ واجتماعيٍ. فالبيتُ في الواقعِ ليسَ إلا البناءُ الماديُ ومجموعةُ الأجسادِ التي تشغلهُ، ومن هنا فرغمَ الاختلافِ في المعنى غيرَ أن التداخلَ اللغويَ يشيرُ أيضاً للتداخلِ الواقعيِ.

 

 

البيتُ في الحلمِ.

 عندما حاولَ فرويد أن يشرحَ لنا مفهومَ الغرابةِ وقعَ في لغتهِ الألمانيةِ على تعبيرِ das unheimlich الذي في لغتهِ يعني شيءً غريباً أو لا يشبهُ ما هوَ منزليٌ، لكنَ فرويد في الواقعِ لم يتوقفْ على معاني البيتِ كمركبٍ ماديٍ كما فعلَ مع معناهُ الاجتماعيُ الذي يشكلُ الاوديبَ أرضيةً أساسيةً له، ولا يبدو أن فرويد أعطى قاعةَ بيلفي التي يبدأُ فيها حلمُ حقنةُ إرما أيُ أهميةٍ من حيثُ أنهُ يمثلُ ضميراً "عندهُ" في مكانِ أقامتهِ وعلاقةُ ذلكَ في تأسيسِ اللاوعيِ لذاتهِ في المكان، بل أنَّ فرويد في أحلامِ المنازلِ لا يعيرُ المنزلُ والغرفُ انتباهاً إلا في كونها تعبرُ عن رغباتٍ أو أعضاءٍ جنسيةٍ، بل هو منشغلٌ في الفراغاتِ التي في الأبوابِ والغرفِ كترميزٍ للأعضاءِ الجنسيةِ، فالشرفاتُ أيضاً صدورٌ وأثداءٌ، وصعودُ الدرجِ ليسَ إلا رغبةً جنسيةً في جماعِ الأمِ كما في حلمِ السلم، ومع أنَّ فرويد في انشغالهِ بالمعنى الجنسيِ للحلمِ يهملُ المعاني الحميمةِ والعائليةِ الأخرى في المنزلِ كما سيظهرُها التحليلُ المتأخر، غيرَ أنهُ بلا شكٍ يقدمُ الفكرةَ الأساسيةَ لتصورِ المنزلِ في الحلمِ على أنهُ جسدٌ.

لكن لحسن حظنا أنَّ ابن سرين والنابلسيَ قدموا لنا تفسيراً للدارِ في الحلمِ لابدَ أن ننظرَ فيها لكي تكتملَ صورةُ تفسيرِ الحلمِ بخصوصِ البيتِ من حيثُ لا يجملُها فرويد كما يفعلا، أما ابن سرين فيفسرُ الدارُ على أنها "وأما الدور فهي دالةٌ على أربابِها فما نزلَ بها من هدمٍ أو ضيقٍ أو سعةٍ أو خيرٍ أو شرٍ عادَ ذلكَ على أهلِها وأربابِها وسكانِها، والحيطانُ رجالٌ والسقوفُ نساءٌ لأنَّ الرجالَ قوامونَ على النساءِ... وتدلُ دارُ الرجلِ على جسمهِ وتقسيمهِ وذاتهِ لأنهُ يُعرفُ بها وتُعرفُ به، فهيَ مجدهُ وذكرهُ واسمهُ وسترةُ أهلهِ" و"ربما دلتْ على مالهِ الذي فيه قوامهِ وربما دلت على ثوبهِ لدخولهِ فيه، فإذا كان جسمهُ كان بابُها وجههُ، وإذا كانتْ زوجتهُ كانَ بابُها فرجهُ، وإذا كانتْ دنياهُ ومالهُ كانَ بابُها البابُ الذي يتسببُ فيهِ ومعيشتهِ، وإذا كانت ثوبُه كان بابُها طوقهُ" و"قدْ يدلُ البابُ إذا انفردَ على ربِ الدارِ، وقدْ يدلُ عليه منهُ الفردُ يفتحُ ويغلقُ، والفردُ الآخرُ على زوجتِهِ التي يعانقُها في الليلِ وينصرفُ عنها في النهارِ، ويستدلُ فيها على الذكرِ والأنثى بالشكلِ وبالغلقِ، فالذي فيه الغلقُ هو الذكرُ، والذي فيه العروةُ هو الأنثى زوجتهُ لأن القفلَ الداخلَ في العروةِ هو الذكرُ، ومجموعُ الشكلِ إذا انغلقَ كالزوجينِ، وربما دلا على ولدي صاحبِ الدارِ ذكرٍ وأنثى، وعلى الأخوينِ والشريكينِ في ملكِ الدارِ". ونكتفي بهذا القدرِ من احتمالاتِ تفسيرِ الدارِ عندَ ابن سرين لنرى معانيها في الأحلامِ عند ابن النابلسي "الدارُ في المنامِ دنيا الرجلِ، فمن رأى داراً جديدةً مطينةً كاملةَ المرافقِ فأنهُ أن كانَ فقيراً استغنى، وإن كانَ مهموماً فرجَ عنهُ، وإن كان صانعاً نالَ دولةً بقدرِ حسنِ الدارِ، وإن كانَ في معصيةٍ تاب، فإن كانت مطينةً فإنهُ حسنَ حالهُ في الآخرةِ، فإن كانت في جصٍ وآجر فإنهُ سوءُ حالهِ فيها، فإن دخلَها وخرجَ منها فهو إشرافٌ بالمرضِ على الموتِ ثم ينجو، والدارُ إذا انفردت ورأى فيها الأمواتَ فأنهُ يموتُ جميعُ من فيها، فإن خرجَ من دارهِ غضباً فإنهُ يحبسُ، فإن رأى رجلاً دخلَ دارهُ فأنهُ يدخلُ في سرهِ، وإن كانَ فاسقاً فأنهُ يخونهُ في امراتهِ أو معيشتهِ" و"من باعَ دارهُ طلقَ امرأتهُ" الخ. ونجدُ في هذهِ التفسيراتِ مجموعةُ الأمورِ التي لابدَ أنْ نجملَها لعلها تساعدُنا في وقتٍ لاحقٍ في نسجِ التشابهاتٍ الأساسيةِ بينَ هذهِ التفسيراتِ ومنظورِ التحليلِ النفسيِ للبيت، فنحنُ نجد في هذهِ التفسيراتِ للدارِ الجانب المتعلق بالجسد والحياة النفسية والحياة الجنسية والحميمية، بل إنَّ التشبيهاتِ الجنسيةَ للبيتِ لدى ابن سرين تتطابقُ وتفسيراتُ فرويد إذا ما أردتم في أحلامِ المنازلِ، لكن ابن سرين والنابلسيَ يبقيا على آفاقٍ أوسعَ في محاولةِ فهمِ الدارِ من جوانبَ متعددةٍ وتبعاً لظروفِ الحالم، ولا حاجاتَ بنا هنا في هذا المثالِ المتعلقِ بتفسيرِ الدارِ للقولِ بأنَّ تعددَ وظائفِ البيتِ في الحلمِ لتغطيَ الشخصَ وحالتهِ النفسيةِ والماليةِ والحميميةِ والداخليةِ والشعوريةِ أكثرَ رحابةً عن ابن سرين والنابلسي منها عندَ فرويد.

 

البيتُ في التحليلِ النفسي.

يعتقدُ البيرتو ايغور[1] من كتبهِ لاوعي البيت (2004) بأنَ المنزلَ  ليسَ فقطْ سقفُ يفيدُ في حمايتِنا من المطرِ أو البردِ. بل هوَ ملجئُ العائلةِ الذي يجسدُ الماضي ويتضمنُ الذكرياتِ في بعضِ الأحيانِ لعددٍ منَ الأجيالِ.  إنهُ مكانُ الأحداثِ الأكثرِ حميمةً في حياتِنا، فيهِ يمارسُ الحب، ويحملُ بالأطفالِ ويولدونَ وفيهِ نعيشُ الأفراحُ والأتراحُ العائليةِ، ناهيكم عن الوجباتِ الجماعيةِ والمناسباتِ العائليةِ الأخرى. والمنزلُ كالجسدِ يعيشُ التغيراتِ الزمنية، فهو يعتقُ ويتحولُ ويرممُ بل يباعُ أو يهدمُ. فجدرانُ المنزلِ ترميزٌ لجلدٍ يلفُ العائلة، وكلُ غرفةٍ في المنزلِ تمثلُ وظيفةً حيويةً (الخلفُ، الطعامُ، والنظافةُ، الخ)، ويظهرُ لنا المنزلُ في الحلمِ بشكلٍ واضحٍ على أنهُ يمثلُ جسدَ الحالمِ أو أجزاءً منه، فالسقفُ في صورِ المنامِ قد يمثلُ الرأس، والتفكيرُ أو المُثلُ العليا في حينٍ يمثلُ الطابقُ التحت الأرضيُ الدوافعُ الباطنيةُ. "المنزلُ هو انعكاسٌ لروحِنا، وعلى هذا النحوِ، فإن الصعوباتِ التي نواجهُها، ومشاكلَنا التي لم تحلُ، وأسرارَ عائلتِنا يتمُ إسقاطُها على موطننا الحقيقي". لهذا فإن للمنزلِ جسدٌ: حيثُ نسقطُ تصورتِنا[2] عن جسدِنا على مسكنِنا، في نفسِ الوقتِ نستدخلُ ونذوتُ[3] فضاءَ السكنِ الخاصِ بنا، وهاتانِ الحركتانِ تسهمانِ في بناءِ مفهومِ المعيشةِ الداخليةِ (الموطنِ الداخليِ) الخاصِ بنا. الجسدُ والمجموعةُ هي منظمُ البيتِ، وهي التي تسمحُ التمثيلُ اللاواعي للبيتِ الذي يمكنُ أن نقولَ عنهُ معيشةٌ داخليةٌ، تفاعلاتٌ شعوريةٌ، أو المحفظةُ النفسيةُ للمجموعةِ العائليةِ في الذكرياتِ التي عادةً ما تمثلُها المواضيعُ المحتفظُ بها. تؤدي المعيشةُ الداخليةُ (الموطن الداخلي) خمسُ وظائفَ: الاحتواءُ، والتعريفُ، والاستمراريةُ التاريخيةُ، والخلقُ والجمالياتُ، وهي وظائفٌ تحلُ محلَ بعضِها البعضِ في حالةِ الفشلِ. حولَ العلاقةِ الحميمةِ للأسرةِ، يمكنُ للمنزلِ توسيعُ المجالِ النفسي، كما يُظهرُ الخللُ الوظيفيُ والإنكارُ، خاصةً تلكَ المتعلقةِ بالانفصالِ.

إن طريقةَ تنظيمِ منزلِنا من الداخلِ تأثرُ على حياتِنا وتعكسُ الطريقةَ التي نبني فيها الروابطَ العائلية. فغرفةُ المعيشةِ تعكسُ بشكلٍ كبيرٍ نوعيةَ الحديثِ بينَ أعضاءِ الأسرةِ. وحيثُ نقضي وقتاً طويلاً سويةً في مكانٍ ما، تتحولُ الجدرانُ والأثاثُ لتصبحَ حميمةً ودافئةً. كما أن بعضَ البيوتِ تعززُ النماءَ الشخصيَ، في حينِ إن أخرى قد تعطِله: البيتُ المزدحمُ، أو الفوضويُ وغيرُ العمليِ، أو قطع اثاث تنخزنا بإبرٍ من ماضيٍ مؤلم. في كتابهِ "منزلك" يقترحُ ايغيري البدءَ بمفاهيمِ النظامِ والفوضى. ويشيرُ إلى أنهُ "حيثُما توجدُ فوضى، يمكنُنا القولُ إن هناك اضطرابًا، كما هوَ الحالُ في منزلٍ حيثُ المكانُ والممراتُ مزدحمةٌ، حيثُ تغلقُ الأبوابُ بشكلٍ سيء". الاضطرابُ المعتدلُ لهُ ما يبررهُ، في حينِ أنَ النظامَ المفرطَ يدلُ على الرغبةِ في السيطرةِ. "العاداتُ المتطرفةُ، كثرةُ النظامِ أو الفوضى، تُظهرُ أنَّ الأشياءَ أصبحتْ أكثرَ أهميةً من الناسِ". قد يكونُ الترتيبُ المفرطُ مرتبطاً بالقلقِ من إنتاجِ اضطرابٍ في اللاوعي، اضطرابٍ أخلاقيٍ. في حينِ يركزُ المعالجُ النفسيُ بيير هيري والخبيرُ العقاريُ فرانسوا روبين (2017) الاهتمام على مكانِ صيدليةِ الأسرةِ وعرضِ الأدويةِ - على سبيلِ المثال طاولةٌ بجانبِ السريرِ عليها أدويةٌ، "إن تكاثرَ أماكن التخزينِ الظاهرةِ هذهِ علامةٌ على درجةِ معاناةِ السكان".

في المنزلِ المعاصرِ تحولتْ غرفةُ النومِ شيئاً فشيئاً لتصبحَ المكانُ الحميميُ بامتيازٍ، في المقابلِ أخذتْ غرفٌ أخرى في المنزلِ أهميةً خاصةً، فالحمامُ الذي كانَ مخصصاً ذاتَ مرةٍ للنظافةِ الشخصيةِ أصبحَ مخصصاً للمتعةِ. فنحنُ مهتمينَ بتأثيثهِ، وأصبحَ شيئاً فشيئاً أوسعُ من السابقِ. والحمامُ من وجهةِ نظرِ ايغوري الغرفةُ التي تعكسُ بشكلٍ متزايدٍ الانشغالَ بالذاتِ والنرجسيةِ. أصبحَ المطبخُ أكبرَ، فضاءٌ فميٌ، حيثُ نتناولُ الطعامَ، ونتحدثُ، وينجزُ فيهِ الأطفالُ فرائضهم المدرسيةِ، بل أصبحً أيضاَ يتسعُ للمعارفِ دون مجاملاتٍ. فالمطبخُ المعاصرُ أضحى مكاناً ودوداً. لكن بالنسبةِ لايغوري الغرفةَ الأكثرَ أهميةً في البيتِ هي غرفةُ الزوجينِ، حيثُ تدورُ عمليةُ المتعةِ الجنسيةِ والتكاثرِ، وتتفرعُ منها حياةُ العائلةِ تتفرعُ كما أنَّ ترتيبَها يكشفُ لنا الكثيرَ عن الحياةِ الحميمةِ للزوجينِ. تلك الحجرةُ التي لا يصلُها الغرباءُ. والغرفةُ الدافئةُ والحميميةُ يمكنُ أن تُشبَه هنا: مساحةٌ مخصصةٌ للنوم ولا تحتوي مكتباً أو شاشةً تزعجُ وتبعدُ الأزواجَ، أما النومُ على الكنبةِ في الصالونِ كما يفعلُ ذلك بعضُ الآباءِ المتضايقينَ بعدَ ميلادِ طفلٍ، يكشفُ بأنَّ أهميةَ الحياةِ الجنسيةِ قلت في حياةِ الزوجين. نجدُ أيضاً أماكنَ الاستثمارِ، على سبيلِ المثالِ غرفةُ المعيشةِ المليئةُ بالأعمالِ الفنيةِ والأشياءِ الثمينةِ المعروضةِ للتفاخرَ، فقدْ يركزُ بعضُ الأشخاصِ على المظاهرِ، محاولينَ "ملءَ عيونِ" الزوارِ، بينما قد تكونُ هناكَ أشياءٌ مفقودةٌ من الداخلِ. كما يلعبُ توزيعُ الغرفِ بينَ أفرادِ الأسرةِ دوراً مهماً فـ "إذا تمَّ منحَ الطفلِ أفضلَ مكانٍ، فهذا يدلُ على أننا نحاولُ منحَهُ استثمارًا متميزًا على حسابِ البالغين"، مقابلَ غرفٍ أقلَ امتيازًا، مثلَ تلكَ التي توجدُ بها حركةُ مرورٍ وافتقارٌ إلى الخصوصيةٍ. ويعتقدُ ايغوري أنهُ "غالبًا ما يتمُ حلُ المشكلاتِ عندما يكونُ الوالدانِ أكثرَ وعيًا باحتياجاتِهما من العلاقةِ الحميمةِ".

اختيارُ ألوانِ الطلاءِ والستائرِ أو اللوحاتِ يمكنُهُ أن يعكسَ مشاعرَ الساكنينَ في البيتِ. الألوانُ الدافئةُ مثلَ الأحمرِ والأصفرِ تعكسُ مشاعرَ الفرح. الألوانُ الباردةُ مشتقاتُ الأزرقِ والأسودِ تدل على الحصر أو الحزن، لكنَّ الأمرَ يعتمدُ على الغرفةِ ويصعبُ التعميم. فغرفُ المعيشةِ تكونُ ذاتُ الألوانِ المحايدةِ، فإذا ما كانت الغرفةُ للراحةِ فإن لوناً فاقعاً قد يكونُ مزعجاً. على سبيلِ المثالِ، الأخضرُ لونٌ حيويٌ ولكنهُ قد يُزعجُ في غرفةِ النومِ، في المقابلِ قد يعكسُ اختيارُ الألوانِ المتطابقةِ في كلِ الغرفِ الرتابةِ والكأبة. إذا كانَ المنزلُ، من خلالِ هذا الخطابِ الصامتِ واللاوعي، قادرًا على عكسِ العديدِ من أشكالِ العصابِ، فيمكنُهٌ أيضاً أن يشكلَ مصدرًا لرفاهيَتِنا، بما يتجاوزُ وظيفتهُ الأساسيةُ المتمثلةُ في "المأوى".. أما مواضيعُ المنزلِ فتدخلُ في لعبةِ التملكِ والاستعراضِ وعادةً ما يتمُ اسقاطُ مشاعرَ عليها تفوقُ استخداماتِها العملية.

تحسينُ وتحويلُ شكلِ البيتِ لهُ أهميةٌ نفسيةٌ خاصةٌ. فمن خلالِ العملِ على الحيطانِ نبحثُ عن رفاهٍ أفضلَ للعائلةِ، لكنَّ المشكلةَ في مكانٍ أخرَ خصوصاً في علاقةٍ غيرَ متماسكةٍ معَ الوالدينِ، كما أنَّ التصليحَ والبناءَ الذاتيِ يهدفُ لعملٍ يدويٍ قائمٍ على النوعِ الاجتماعيِ فعندما تكونُ المهامُ مقسمةٌ بشكلٍ جامدٍ فإنَّ هذا قد يعكسُ تعطلَ الفرقِ الجنسيِ بينَ الزوجينِ، أما الإفراطَ في علميةِ التصليحِ فأنهُ محاولةٌ لتأكيدِ القوةِ القضيبيةِ. في المقابلِ فأنَّ الأشخاصَ الذينَ لا يحبونَ هذهِ العمليةِ من التحسينِ يترددونَ لأنَّ التغيرَ يخيفُهم. يخافونَّ من فقدانِ العلاقةِ مع الماضي أو فقدانِ السعادةِ، أو عدمِ التعرفِ على الهويةِ العائليةِ.  

إن الانتقالَ من السكنِ لحظةٌ كثيفةٌ شعورياً وحرجةٌ. ففي كلّ مرةٍ ننقلُ السكن، نعيدُ انتاجَ بوادرَ الاستقلالِ الأوليةِ للخروجَ من بيتِ الوالدين. وبقدرِ ما هي لحظةُ تحولٍ ماديٍ غيرَ أنها أيضاً نفسيةٌ من حيث أنها تعدُ لمرحلةٍ جديدةٍ. وعندما ننقلُ السكنُ فأننا ننقلُ الأثاثَ الداخليَ أي التمثيلاتِ النفسيةِ الداخليةِ، وهيَ التي ستساعدُنا على بناءِ علاقتِنا العاطفيةِ مع المكانِ الجديدِ. (مثالٌ معاكسٌ، الأشخاصُ الذين لا يريدونَ نقلَ البيتِ أو الخروجَ من بيتِ الوالدين). إن الانتقالَ لحظةٌ مزعجةٌ قبلَ وخلالَ وبعدَ. وبالرغمِ من الميلِ لرؤيةِ عمليةِ نقلِ السكنِ على أنها محنةٌ سلبيةٌ، إلا أنَّ الامرَ يتعلقُ ببادرةٍ إيجابيةٍ، وعمليةِ تحولٍ ونضوجٍ. تعيدُ هذهِ الخطوةُ إنتاجَ نموذجِ الأزمةِ الأسريةِ: الشعورَ بالتمزقِ، والفيضانَ العاطفيِ، والغرابةَ، والقرارَ والتقدمَ. غالبًا ما تؤدي هذهِ الأزمةُ إلى وضعٍ أفضلَ. في المقابلِ يعتبرُ فقدانُ المسكنِ صدمةً ويؤدي إلى تشويهٍ أو فقدانُ صلةِ القرابةٍ، وتبرزُ هنا وظيفةُ جروحِ البنوةِ وشفائُها (التبني، التنسيبُ للأطفالِ، التفكيكُ - إعادةُ بناءِ الروابطِ الزوجيةِ والأبويةِ)، وكذلكَ في تكوينِ الأزواجِ أو أزماتِهم أو في تكوينِ العلاقاتِ الزوجيةِ، زوجانِ جديدانِ، عندما يكونُ كلُ شيءٍ على ما يرام، تلعبُ الديناميكياتُ اللاواعيةُ دورَها دونَ أن نلاحظَ ذلك. تجبرُنا العلاجاتُ الأسريةُ على إلقاءِ نظرةٍ فاحصةٍ، دون خوفٍ، على ارتباطِنا بمنزلِ الأسرةِ، لأنهُ جزءٌ من هويتِنا.

بالمجملِ فأنَّ التحليلَ النفسيِ يشددُ على العلاقةِ القويةِ بينَ المنزلِ والهويةِ الفرديةِ والعائليةِ، وبالرغمِ من أنَّ فرويد كما رأينا سابقاً، لم يولي هذا الموضوعَ اعتباراً كثيراً ، غيرَ أنَّ التحليلَ النفسيِ للإفرادِ والأزواجِ والعائلة،ِ يقدمُ تبعاً كلَّ الأدلةِ التي تجعلُنا ننظرُ إلى المنزلِ على أنَّهُ جسدُ العائلةِ وجلدُها، والبيئةُ الأساسيةُ لنشوءِ الذاتِ والنماءِ الشخصيِ اللاحقِ، وأنَّ المنازلَ التي تنتجُ عن المنزلِ الأولِ تنتجُ عن عمليةِ انفصالٍ حرجةٍ، وواعدةٍ في ذاتِ الوقت، في المقابلِ فأنَّ هذهِ المنازلَ الجددَ كما الأزواجُ الجددُ تنتجُ عن المنازلِ الأولى وتحملُ بصماتِها في الأعماقِ.

 

البيتُ الفلسطيني.

لنعودَ الآن إلى المنزلِ الفلسطينيِ الذي اهتزت الأرضُ تحتَهُ في منتصفِ القرنِ التاسعِ عشر، فما بينَ لحظةِ الخروجِ من أسوارِ القدسِ والعامِ 1948، حدثتْ تحولاتٌ عمرانيةٌ جليلةٌ في شكلِ هذا المنزلِ وبيئتهِ الطبيعةِ في القرية والمدينة، فخلالَ تلكَ العقودِ نشأتْ مدنُ القدسِ، ويافا وحيفا كمدنٍ حداثيةٍ، وبرزتْ بناياتٌ كثيرةٌ ولكن أيضاً حدثتْ تغيراتٌ جوهريةٌ في شكلِ القريةِ والأراضي الزراعيةِ، فوجدَ كثيرٌ من الفلاحينَ نفسَهم خارجَ أراضٍ اعتادوا زراعتها، ونمتْ حولَهم أحياءٌ ومستعمراتٌ أصبحتْ جزءاً من تحولِ المشهدِ معَ الشعورِ بالتقدمِ والنماء، وأينَ يكنْ من أمرٍ فقدْ شقتْ تلكَ البنياتُ طريقَها حتى العام 1948 بأشكالٍ مختلفةٍ، تأثرتْ بالتمدنِ ولكن حافظتْ أيضاً على طابعٍ خاصٍ أنْ لم يكن في الشكلِ ففي المضمون.

في فلمِ فرحة للمخرجةِ الأردنيةِ دارين سلام (2021) نجدُ قصةً ذاتٍ وبيتٍ فلسطينيين في العامِ 1948، فحلمُ فرحة، التي تعيشُ مع والدِها في بيتِهم القرويِ، في الانتقالِ من كُتابِ القريةِ لمدرسةِ المدينةِ، والذي يتعارضُ مع أحلامِ ومصيرِ بناتِ جيلِها في إنشاءِ أسرةٍ في سنٍ مبكر، يتشكلُ في منزلٍ قرويٍ له بوابةُ وحوشٍ وغرفٍ منفصلةٍ الواحدةُ عن الأخرى، في غرفتِها على ضوءِ القنديلِ تدرسُ وتقرأُ، وتستطيعُ أن تسترقَ السمعَ والنظرَ على جدالِ رجالِ الثورةِ مع والدِها من شقِ البابِ، ومن شباكِها على محاولةِ عمِها وأبي صديقتِها القاطنِ في المدينةِ في إقناعِ والدِها بالقبولِ ذهابها لمدرسةِ المدينة. وبعيداً عن تلكَ العلاقةِ بين المدينةِ والقريةِ والتي يمثلُها أبناءُ العائلةِ الواحدةِ، فأنَّ لحظةَ تحققِ الحلمِ، تترافقُ مع بدايةِ قصفِ القريةِ، وبالرغمِ من أنَّ والدَها يدفعُها للذهابِ مع عمِها وعائلتِهِ في سيارتِهم للمدينةِ، غيرَ أنَّ فرحة لم تستطع أن تتركَ والدَها وحيداً في البيتِ في قريةٍ بدأت فيها القيامةُ للتو، غيرَ أنَّ هذهِ العودةُ لحضنِ الوالدِ الذي يريدُ حمايةَ قريتهِ وبيتهِ، تتحولُ سريعاً لحبسٍ منفردٍ في غرفةِ المونةِ من قبلِ الأبِ لحمايةِ ابنتهِ من الخطرِ الداهم. تحبسُنا دارين سلام مع فرحة لوقتٍ طويلٍ في غرفةِ المونةِ، فنعيشُ معها خوفَها ومللَها وضيقَها وتغيراتِ جسدِها في مكانٍ مظلمٍ وصامت، ومن ثقوبِ المخزن تطلُ فرحة على حوشِ بيتِهم وبابِه الذي هدمهُ القصف؛ فتكونَ شاهدةً ومعلقةً بين حبسِها في الظلامِ ومشاهدَ الميلادِ وإبادةَ عائلةٍ بأكملِها، فتجملُ فرحةُ في قصتِها حقيقة الاف الصفحات عن حدثِ الصدمةِ المدمرةِ التي حلتْ بالبيتِ والعائلةِ والمجتمعِ الفلسطيني في ذلكَ الربيعِ الدامي للنكبةِ، في المشهدِ الأخيرِ وبعدَ أن تستطيعَ فرحة الخروجَ بقوتِها من المخزنِ، وبعد أن تأكلَ من تينِ القريةِ وتستحمَ بمائِها لا تعودُ لمنزلِها فلم يعد ملجأً، ولكنها ترحلُ عن قريتِها حتى لحظتِنا. وإذا ما كانت الأرضُ قد اهتزتْ تحتَ البيتِ الفلسطينيِ في منتصفِ القرنِ التاسعِ عشر، ها هي تهزُ كيانهُ، وهذا مثال ُالبيتِ الفلسطينيِ المدمرِ والمهجور، وما هي النكبةُ في الواقعِ أن لم تكن في أحدِ أهمِ أشكالِها، مئاتُ ألوفِ البشرِ يتركونَ منازلَهم، وبيوتَهم، ولهذا بقيَ مفتاحُ البابِ رمزاً للعودةِ أو استعادةِ التملكِ أو القضيبِ الرمزيِ.

ومنذُ ذلكَ الربيعُ المنكوبِ، برزتْ أشكالُ البيتِ الفلسطينيِ اليوم، فهناكَ البيتُ القائمُ رمزاً على البقاءِ والوجودِ وتأكيدِ الذاتِ لا على الأرضِ وحسب؛ ولكن في الحياةِ الاجتماعيةِ، لكنه بيتٌ محكومٌ بسياقٍ من العنفِ يجعلهُ في أحدِ أركانهِ قلقٌ من الهجرِ، وهناكَ بيتُ العائدِ إلى حيفا الذي يمثلُ كل البيوتِ التي حلتْ فيها أجسادٌ وذواتٌ أخرى، وهناك بيتٌ لم يعدْ لهُ وجودٌ، وما بينَ هذا وذاك، بقيَ البيتُ الفلسطينيُ عدوًا أصلياً في الوعيِ الصهيوني، فهو ممنوعٌ من البناءِ تارةً، وهوَ موضوعُ العقابٍ تارةً أخرى، وفي كلِ الأحوالِ مادامَ الصراعُ على الأرضِ قائماً فأن هذا البيتَ والعائلةَ التي تقطُنهُ عُرّضتْ لكلِ أشكالِ صدمةِ الانفصالِ والفقدانِ. وما لم نستطيعْ أن نتأملَ في التشابهِ بينَ جسدِ وذاتِ الشهيدِ والجريحِ والاسيرِ معَ جسدِ المنزلِ المهدومِ والمهجورِ والمأسورِ فأننا نفوتُ فرصةً أساسيةً في النظرِ لجوهريةِ العلاقةِ ما بينَ العنفِ على الانسانِ والمكان، وتقابلهم وتوازيهما. فمنفذُ العمليةِ يجبُ أن يعاقبَ بتدميرِ منزلِ عائلتِه، والذي يقررُ أن يبني برغمِ المنعِ يجبُ أن يهدمَ بيتهُ بيدهِ، والمجزرةُ في غزةَ تتساوي فيها الأرواحُ والمنازلُ في الخسائرِ.

 للنظرِ على الآثارِ النفسيةِ لفقدانِ المنزل، فلقد خلصُت دراسةٌ للمركزِ الفلسطينيِ للأرشاد (سرور، 2009)  حولَ سياسةِ هدمِ المنازلِ على الأطفالِ الفلسطينيينَ وعائلاتِهم إلى أن "بالرغمِ من أنَّ هدمَ المنزلِ يقفُ وراءَ الصدمةِ الأساسيةِ التي يواجهُها الطفلُ، إلا أن شحَ المصادرِ، المنعكسُ في حجمِ الخسائر، يجعلُ من إمكانيةِ التعاملِ مع الفقدانِ شبهَ مستحيلٍ، بدلاً أن نرى ديناميكية تعاملِ مع حدثٍ صادمٍ واحد، نرى هؤلاء الأطفالَ يتعاملونَ مع صدمةٍ مستمرةٍ، ومتكررةٍ، حيثُ أنَ الفقدانَ  يواجههم في كلِ مكان، وأهمُ ما يفقدهُ هؤلاءِ الأطفالِ هو احتضانُ الأهلِ لهم، وحمايتُهم وتنشئتُهم، بصفتِهم والدين" (سرور، 2009، 51). وقد وجدتْ تلكَ الدراسةُ أنَّ "الصحةُ النفسيةُ للوالدينِ كانت مترديةً جداً" وأن "أكثرُ من ثلثِهم كانوا في خطرٍ لتطورِ أعراضٍ نفسيةٍ مرضيةٍ" وأن هذهِ الأمور أدتْ إلى جعلِ الأطفالِ يعيشونَ موقفاً صعباً جداً، تمثلت بفقدانِ الأمانِ العاطفيِ، بعدَ أن فقدوا الأمانَ البدنيَ أو الجسدي" وتبينَ أنَّ وضعَ هؤلاءِ الأطفالِ "أسوءُ بكثيرٍ من أقرانهم" فـ"لم يقتصرْ على آثارِ بعدِ الصدمة، بل أصابَ صحةَ الطفلِ النفسيةِ بمجملِها" على شكلِ "انسحابٍ اجتماعيٍ" و"مشاكلَ في التأقلمِ مع الاقرانِ" و"سلوكياتٍ عنيفةٍ تصلُ أحياناً للجنوحِ، وقلقٍ كبيرٍ، ومزاجٍ مكتئبٍ، وصعوباتٍ في الانتباهِ والتركيزِ، ومشاكلَ في التفكيرِ" وأشارَ هذا الاتساعُ في نطاقِ الآثارِ النفسيةِ للهدمِ أنهُ مشابهٌ لآثارِ "صدمةٍ متواصلةٍ، أكثرَ من مجردِ مشابهتِها لحادثٍ صادمٍ واحد". أما في مستوى العائلةِ فإن هدمَ المنزلِ "يولدُ توتراً أكبرَ في العلاقةِ بينَ العائلةِ النوويةِ وأعضاءَ العائلةِ الممتدةِ، بسببِ تغيرٍ أساسيٍ في نظام الحياة لكلتا العائلتين " بسببِ التباعدِ أو التقاربِ الزائد.  في حين لعبتْ حسبَ النتائجِ في البحثِ "الآلياتِ داخلَ العائلةِ" مثلَ "التوترِ المتراكمِ في جهازِ العلاقةِ (والد- طفل)". (سرور، 2009، 52). وقدْ أظهرتْ دراساتٌ أخرى ممتدةٌ من بدايةِ التسعيناتِ حتى يومِنا هذا الآثارَ النفسيةَ والاجتماعيةَ المترتبةَ على عمليةِ هدمِ البيوت، وقد استندتْ هذه الدراساتُ جميعاً على أدواتِ بحثٍ مقننةٍ ومحكمةٍ استطاعتْ إظهارَ الآثارِ النفسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ على الأفرادِ والأسرِ التي هدمتْ بيوتُها. وبينَ بحثٍ غيرِ منشورٍ للمركزِ الفلسطينيِ للأرشادِ (2011) والذي عملَ على دراسةِ طبيعةِ اتخاذِ قرارِ البناءِ والهدمِ الذاتيِ من محاورَ الحقِ الفرديِ والجمعيِ المادي والمعنوي، إدراكُ السلطةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ والمؤسساتِ الأهليةِ ودورُها، اتخاذُ القرارِ بينَ المسيرِ والمخير، والذي اعتمدَ منهجيةَ المقابلاتِ شبهِ المفتوحةِ مع عددٍ من العائلاتِ التي قامتْ بهدمِ منازلِها بناءاً على مقرراتِ المحكمةِ البلديةِ في القدسِ الشرقيةِ، بأنْ:

جميعُ الأسرِ اعتبرتْ قرارَ الهدمِ الذاتيِ جبريٌ إلزاميٌ لا يمكنُ التملصُ منهُ، ولمْ يكنْ بإمكانِ أفرادِها تصورُ سيناريوهاتٍ أخرى، كما أنَّ جميعَ هذهِ الأسرِ عبرتْ عن غيابِ الدعمِ الاجتماعيِ من المحيطِ الماديِ القريبْ، ولمحَ ما نسبتُهُ أكثرُ من 50% بأنَّ الجيرانَ الفلسطينيينَ همْ من أحتجَ على نشاطِهم العمراني. كما أن ما نسبتُهُ 40% من الأسرِ تعيشُ في أحياءَ يقطنُها جيرانٌ يهودٌ مباشرين. وأن 10% من الأسرِ تم إجبارُها على تنفيذِ أمرِ الهدمِ الذاتيِ تحتَ عنفِ قواتٍ شرطية، وبوجودِ ألياتٍ عسكرية. وعبر 10% من الأسرِ عن نيتِه في الرحيلِ عن المكانِ. في حين أن 90% من الأسرِ ربطتْ ما بينَ الحقِ الفرديِ في السكنِ والحقِ الجمعيِ للشعبِ الفلسطينيِ في المكان. وعبر 30% من الأسرِ قبولَها لخيارِ الرحيلِ في حالِ توفرِ شروطٍ ماليةٍ أفضل. وعبرتْ عائلةٌ واحدةٌ أنها تلقتْ عروضاً مغريةً للتخلي عن بيتِها لصالحِ مالكٍ إسرائيليٍ وعن طريقِ وسيطٍ عربيٍ من بلدةٍ عربيةٍ لا تقيمٍ علاقاتٍ مع إسرائيل.

عبر100% من الأسرِ عن أعراضٍ نفسيةٍ وعاطفيةٍ، ومشاكلَ وظيفيةٍ وعلاقاتيه[4] بسببِ حادثِ الهدمِ الذاتيِ. وأكثرُ من 50% من الأسرِ عبرتْ عن ازدراءِ الجيرانِ أو السلطةِ أو الصحافةِ لهم بسببِ إقدامِهم على الهدمِ الذاتي. في حين إن جميعَ الأسرِ لم تبدِ ندماً على قرارِ الهدمِ، مقابلَ 80% من الأسرِ أبدتْ ندماً على قرارِ البناءِ دون ترخيصٍ، كما أن 20% فقط عبرتْ عن نيتَها البناءَ مرةً أخرى في حالِ توفرِ الدعمِ المادي، وأخيراً خلصَ البحثً أنهُ بالرغمِ من ارتباطِ جميعِ الأسرِ بالمكانِ والحقِ الجميعِ غيرَ أن جميعَها بدأتْ تنظرُ بعدَ الهدمِ إلى مشكلتِها من منظورٍ فردي.

 

البيت في المحادثة.

بالنسبةِ للعيادةِ فإن المرءَ لو تأملَ قليلاً في محادثاتِ العيادة، لبرزَ لهُ من الوهلةِ الأولى، أننا لا نستطيعُ أن نمنعَ أنفسنا من تخيلِ بيوتِ المسترشدين، فنحنُ بدايةً نحاولُ أن نفهمَ شجرةِ العائلةِ والعلاقاتِ فيها، أي نحاولُ أن نفهمَ ما يدورُ في البيتِ أو البيوتِ التي يرتبطُ بها المتحدثُ إلينا، والمتحدثُ/ة إلينا في الواقعِ هو عضوٌ من جسدِ البيتِ يحضرهُ للعيادةِ بأشكالٍ متنوعةٍ، وحيثُ يحاولُ أن يحدثَنا عن ما يدورُ هناكَ يكونُ مرغماً في مراتٍ كثيرةٍ على وصفِ البيتِ لنا حتى لو لم نطلبْ ذلك، كما في الحالاتِ التي تفرضُها علينا الضرورة، في الحديثِ عن المبيتِ والمعيشةِ، إن نقلَ السكن، أو الرغبةُ في السكنِ خارجَ بيتِ العائلةِ، أو المشاكلَ التي تخلقُها المساحاتُ الضيقة، او القربُ من بيتٍ آخر، أو عدمِ الخصوصية، أو الانفرادِ في الغرفة، او نوعِ المحادثاتِ التي تدورُ في المساحاتِ المختلفةِ من المنزل، أو رغبةُ أحدِ الزوجينِ في تغييرِ السكنِ، أو الشعورُ بأن هذا ليسَ بيتي، أو المشاكلُ التي تمنعُ زيادةَ بيتِ الوالدية، أو زياراتِ بيوتِ أقاربٍ، أو تلقي الزياراتِ من الأقاربِ، أو ترتيبُ المنزلِ، أو النظافةُ، أو وصفُ الغرفِ المختلفةِ وما تسببهُ من راحةٍ أو ضيقٍ، الخ من الأمورِ التي تجتاح المحادثةَ العياديةَ وتوضحُ بطرقٍ مختلفةٍ أهميةَ البيتٍ في ذاتِ المتحدثين. في خبرتي العمليةِ، فإنَّ الأحلامَ ومعناها للمتحدثِ، التي تنبعُ من التحليلِ النفسي، تساعدُ كثيراً في الوصولِ إلى موادٍ تساعدُ في ربطِ أو فهمِ الصراعاتِ أو الحالاتِ أو الارتباطاتِ التي يعيشُها الأشخاص، ولهذا فإن جمعَ الأحلامِ ودعوةَ المتحدثينَ للتفكيرِ فيها ومحاولةُ الوصولِ لتفسيراتٍ مفتوحةٍ، يكونُ لها آثارٌ مباشرةٌ وجانبيةٌ مشجعةٌ في التحسنِ النفسي، لكن سرعانَ ما تبدأُ هذهِ الأحلامُ في التناقصِ لدى الكثيرِ من الأشخاصِ، في حينِ أنَّ أشخاصاً آخرينَ يبقونَ على علاقةٍ مقبولةٍ مع تذكرِ أحلامِهم.

سأحاول هنا الاقترابَ من معاني البيتِ في بعضِ المقتطفاتِ من الأحلامِ التي تمَ العملُ عليها في خبرتي العلاجيةِ، مع الحفاظِ على خصوصيةِ الأشخاصِ، ولهذا سأقتطعُ أجزاءً محددةً أيضاً لتجنبِ أيِ ضررٍ، مع التركيزِ على جوانبَ تخصُ معنى البيتِ.

تنبهتْ مسترشدةٌ إلى أنَّ أغلبَ أحلامِها، تدورُ في بيتِهم الأولَ الذي ولدتْ وعاشتْ فيه لعددٍ من السنواتِ، قبل أن تنتقلَ العائلةُ لبيتٍ آخر، وبالرغمِ من أنها قد انفصلتْ عن العائلةِ في مدينةٍ أخرى بعدَ زواجِها، فإنها تعاني من صعوباتٍ حقيقةٍ في الانفصالِ العاطفيِ والماديِ عن أسرتِها بالرغمِ من وظيفتِها الممتازة، وغالبُ ما تدورُ أحلامُها في الرحلةِ لبيتِ الوالديةِ، أو بالقربِ من قريتِهم. إنَّ الأعراضَ التي تعاني منها هذهِ السيدةُ في بيتِها المستقلِ أعراضُ قلقٍ واكتئابٍ تمنعها من أداءِ وظائفِها العائليةِ والمنزليةِ. أحدُ المسترشدينَ الذي فكرَ كثيراً بالرغمِ من توفرِ الإمكانياتِ الماديةِ والمنازل، في الخروجِ من بيتِ الوالدينِ، أي الاستقلالِ، لأنهُ أعزبٌ، حلمَ هذا الحلم "قاعد مع عيلتي والاكس تبعي قاعد في الصالون"، وإذا ما علمنا بأن المسترشدَ لم يكنْ قادراً على قبولِ نفسهِ وهويته، والتعاملِ مع قلقِ الانفصالِ النفسيِ عن الأمِ والأب، وصحيحٌ أن توجههُ جاءَ على خلفيةِ انفصالٍ عاطفيٍ عنيف، غيرَ أنهُ تبينَ أنَّ قضيةَ الاستقلالِ كانتْ القضيةُ الأساسيةُ التي عملَ عليها فمكنهُ ذلك من الاستمتاعِ بالاستقلالِ المكانيِ عن الأهلِ على أقلِ تقدير.

ويظهرُ البيتُ أو أجزاءٌ منهُ ليعكسَ صراعاتِ الذاتِ في العلاقةِ مع العائلةِ والذاتِ والآخرِ في أحلامِ هذهِ المسترشدة “ كنا عند دار سيدنا (اسم مدينة) ومجتمعين العائلة وكانو فوق وكان في حيايا وانا بقلهم في حيايا، حيايا. وهم بقولوا ههي هذه احنا بنربيها، وانا كانت خايفة وبهرب بطلع فوق شيء" وفي حلمٍ آخر" كنت في الحمام في (اسم مدينة أخرى غير التي في الحلم الأول)، كنت قاعد على المراية، واهلي قاعدين برى، واجتني اختي وصارت تحط لينسيني وانا عصبت كثير عصبة وصرت اصرخ عليها وصرت احكي قدام اهلي منيح انك مش ساكنه معنا لو ساكنة معنا، كانت بتجنني." وها ذا أحلامُ مسترشدةٍ أخرى تعكسُ علاقةَ الذاتِ في ما بين الأجيالِ، والرغبةَ التي تؤسسُ لها علاقةُ الذاتِ مع الآخرِ المهم "كنت في بيت ستي، بروح على مكان بلاقي م، لابسه قميص احمر عليه ورد صغير وبنطلون جينز وشفنا بعض وعبطنا بعض" وفي حلم أخر "كنت في بيتي، وعامله بيبي ستينغ ل طفلين، ورونيت ل"م" تيجي وكانت هي وامها والمرة عبطنا بعض بس ما بسنا بعض واجت امي". كانت والدةُ هذهِ الشابةِ هي من أحضرها للعلاجِ بعد أن علمتْ من بيتِ الجدِّ من ناحيةِ الأمِ بالضيقِ الذي تعانيه، وكانت الأمُ أكثرَ جزعاً ورغبةً في التدخلِ من ابنتها.

وتنعكسُ صراعاتُ الذاتِ في أحلامِ هذهِ السيدةِ التي تعاني من عدمِ الانتظامِ والإحباطِ من العلاقةِ الزوجيةِ وعلاقةٍ مشتبكةٍ مع البيتِ الوالدي، حلمتْ "انا وزوجي بنكون قاعدين في بيت بنشتغل على كمبوتر وفجاة بدخل ناس مسلحين لابسين اسود وشواطئ رياضية وموسيقى بس بطلع سلاح، بمرو، وقعدوا شوي وبنستانى، بطلع وبمشي بلاقي رجال منهم في كل محل في الدنيا" وفي حلمٌ ثانٍ "بدق الحمامات بكون مفتوح بخبط شوي، زي كانه يفتح طرفه وبرجع لورى، في شب يفتحوا ويقلي اتفضلي، وبدخل على الحمام وبدخل كمان وحدة وبقول استنوا، بصير بدوا يغسل ايدي لون الميه حمرا وبحمل حالي وبطلع، وبوقع الدفتر بكون مكتوب تمارين ودارسة الاولاد، بمرق من جنب واحد من هذا الشباب ويقلي بدي ارجع بتقبلوني، بروح ويتركوا" والبيتُ هنا ربما يمثلُ طبيعةَ العلاقةِ الزوجية، والخروجُ منهُ يمثلُ الصراعَ مع خارجها. أما الحمامُ فيعكسُ الجوانبَ النرجسيةَ المتألمة.  وتظهرُ أحلامُ مسترشدةٍ أخرى تعيشُ أزمةً زوجيةً تدفعُها للتفكيرِ في البقاءِ في زواجِها أو الطلاقِ منه تقريباً نفسَ الصراعات "حلمت اني بكون في البيت، وبسمع صوت من ناحية المطبخ، بروح هناك وبكون الصوت جاي من باب المطبخ الخارجي، بخاف وبتطلع من الشباك بكون في مجموعة ناس ثلاث أو أربعة في العتمة واحد منهم مبينة شعلت سيجارته، بخاف كثير لاني بكون أنا وبنتي لحالنا في البيت، وبعدين بفكر شو اعمال، وبتيجيني فكرة كأنها راح تحل المشكلة، أني اضوي الضو، ولما بعمل هيك بصير وهج كبير، وهذول الناس بهربوه لانه كمان حد بعرفش من وين بطخ عليه وأنا بشعر بعدين بالذنب لاني بفكر انه ممكن مطاردين وكانوا بدهم يتخبوا" وفي حلمٌ آخر "قال كانوا أحنا بنكون في بيت اصدقائنا المطلقين في الواقع بس كأنهم بكونوا متزوجين، وانا بصير بدي اروح على الحمام، بس بكون في وسخ كثير على المقعدة، وانا بصير انظفه، بس كل ما بمسحو بزيد، وهي واقفة باب الحمام بتقلي شيء زي معناه خليه خليه نظيف." وهنا أيضاً نرى في الحلمِ الأولِ كيفَ أنَّ البيتَ وبابَ المطبخِ الذي يستخدمهُ الزوجُ بالعادةِ، والشباكَ، لها دلالاتٌ تخصُ العلاقةَ الزوجيةَ التي تشعرُ السيدةُ أنَّ زوجَها يجعلُها عرضةً للتدخلاتِ الخارجية، وأن الشباكَ يمثلُ منظوراً، الخ، كما أننا نرى ملامحَ المعاناةِ النرجسيةِ وصورةَ الذاتِ في الحمامِ.

ويمكنُ أن نستمرَ في هذهِ المطاردةِ للمعاني الخاصةِ بالبيتِ إلى ما نهاية، لكنَّ الأكيدَ أن هذا البعدَ المكاني المتعلقُ بالبيتِ له معانٍ كثيرةٍ تتجاوزُ فقط المعنى الجنسيِ، ولكن تدللُ لحدٍ بعيدٍ على جسدِ الحالمِ أو جسدِ العائلةِ أو الصراعاتِ الذاتيةِ والعائليةِ أو صورةِ الذات، وأن أجزاءَ البيتِ تلعبُ دلالاتٍ كثيرةٍ أخرى. لنخذ معاني أخرى كأمثلةِ، مع التأكيدِ أن ما نقدمُه هنا ليسَ تفسيراً لهذهِ الأحلامِ بل تسليطُ الضوءِ على أجزاءٍ منهُ فقط. فهذه بعضٌ من أحلامِ مسترشدةٍ أخرى، تعكسُ صراعاتِ ورغباتِ الجسدِ والذاتِ من البعدِ المكانيِ الزمانيِ "حلمت أني بمكان قديم في غرف والعتبة عالية، في حد قلي روحي عغرفة فيها صور، لقيت جوى الغرفة حدي مريض حكيت السلام عليكم ما حدا رد، خفت وطلعت، رد حد شجعني اروح كمان مرة."  و"-حلمت أنى كنت بشقة طابق تاني بس ما بعرف وين يا مدرسة يا بيت. وفجأة سكر الباب، وعلقت بغرفة لحالي حاولت ادق واصرخ ما حدا سمعني بالأخر يمكن اتصلت عالاذنه(ا) ومش متذكرة ازا انفتح الباب او لاء" و"شفت مقطع تاني في شب اجا عالبيت يتقدملي وشفته قاعد ما ابوي الله يرحمه وانا قاعدة بسمع الحوار- زي كأنه انتقاد للظروف المعيشية من قبل الشب". وفي حلمٍ آخرٍ لشخصٍ آخرٍ، ينعكسُ الألمُ النفسيُ المتعلقُ بالعلاقاتِ مع الآخرِ والذاتِ والانفصالِ عن المنزلِ الوالدي "حلمت انه م رجع عالبلد، واجى سلم على أهلي، حكيتله شو بتعمل هون؟ حكالي انا صرت جاركم بالعمارة اللي جنبكم،،، طلعت عالعمارة لقيتها عم تنحرق، وانا بطلع عالدرج وخايفة انحرق ومش قادرة اعرف وين داري وبأي طابق" ولنفس الشخص " رجعت ع داري لقيتهم مازعين لوحاتي ومخربشين على كل الحيطان". وهذهِ أحلامُ آخرٍ قد تأكدُ أيضاً على المعاني الجنسيةِ ولكنها لا تخلو من تصويرِ الذاتِ في صراعاتِها مع الواقع "بحلم أني بطلع درج او سلم، وبعدين بصير الشعور مزعج. كأنه. بصير نفق أو بير بضغط على جسمي." وحلمٌ آخرٍ لنفسِ الشخصِ "اني عند دار اخوي بقرية ع، لمحت ستي ام امي الله يرحمها، شفت بنت سمرا بتقلي بدهم يزوجونا انا وياكي في بلدهم طبعا هي مبسوطة وانا ما بدي، بعدين كنت واعية بالحلم انه التلاتا في جلسة بالحلم ما مصدقة وانا اروح. حملت اني معي اواعيي بدي اتحمم عندهم ما قدرت لأنه الباب مفتوح" وحلمٌ آخرُ لنفسِ الشخصِ "حلمت اني شفت عروس بتتصور، كأنها موجودة بغرفة تحت الارض، وانا واختي بنتفرج عليها من فوق، بقول بيني وبين نفسي بالحلم هاي العروس ملامحها يهودية فقررت اني اسألها وين مخرج البيت بدي اطلع، وفي هاي اللحظة حسيت اني مضطرة اروح عالحمام، فطلبت من امها اني بدي اروح عالحمام بس مو حمام بيتهم بدي حمام بمكان عام، حكت مع بنتها كلمة لفتت انتباهي فيها تورية قالت لبنتها العروس عني دليها بدها ترسم، قصدها انه بدها حمام ايش علاقة الرسم بالموضوع ما بعرف بس نقلت الحلم متل ما هو، رحت الحمام مع اختي، وبعدين التقيت في حد من عيلتها بلشت اتناقش معه بالدين طلع حافظ كلمات من القران وصرت اناقشو بالدين في كلمات متزكرتها زي (الحزَن،الحزُن) انذكرت بالحلم." وأمثلةٌ أخرى كثيرةٌ تعكسُ حالاتِ المكانِ في شكلِ بيتٍ أو بنايةٍ وتقدمُ صورةٌ عن الوضعِ أو الحالِ أو الأرضيةِ الأساسيةِ للتفكيرِ في الحلم، حلمتْ سيدةٌ كانت ابنتُها في سنواتِها الأولى من الحضانةِ والروضةِ الأولى على صفِها بل تعاملتْ معها المدرسةُ (في بلادٍ اجنبيةٍ) على أنَّها عبقريةٌ، لكنها بعدَ أن مرتْ الامُ بفقدانٍ معقدٍ وصادمٍ أدخلتْها في وضعٍ صعب، أصبحتْ طفلةً عاديةً في الصفوفِ الأولى، "دارنا طابقين وبنتي كانت في الطابق العلوي وفي خشبة وقفت عليها وقعت وانا كنت أنادي على أمي واختي". لقد سقطتْ البنتُ التي تريدُها الأمُ من مثلِها العليا، وهي تشكو الأمرَ لأمِها وأختِها. وقبلَ أن أتركَ هذا الجزءَ أقدمُ سريعاً أمثلةً مقتطفةً من أحلامِ أخرى تدللُ على هذهِ المعاني التي أوردتُها في السابقِ. "بكون بمبنى قديم، فيه غرف كتيرة وهاي الغرف فيها ناس كانهم ميتين او مخدرين...بكون فيه درج كبير، ويمين وشمال في غرف كتيرة... الدرج فاضي وبحاول اكمل طريقي لاطلع من هاض المكان..." و"مشهد ثالث صرنا في بستان، كان بيتي في ( مدينة عربية)، واحنا في (المدينة العربية) كان جاري بس ما كنا نعرف بعض، البستان الأرض معمولة من بلاستك اسود" و"حدى بفوت على غرفتي حد ظل اسود بفوت على غرفتي وبنحكي بس بنحكي وانا مش واعية شو بنحكي" و"حلمت اني انا بكون قاعدة في بيتي بس بيتهم مربوط ببيتي" و"حلمت اني في بيت كله ورود." و"بكون في هذاك البيت ويكون برى على الارض وقاعدة بشتغل على المودل".

 

دارك مقدارك.

بعدَ أن انطلقْنا من الملكيةِ الفرديةِ واهتزازِ الأرضِ تحتَ أركانِ البيتِ الفلسطينيِ مروراً بمصيرهِ في النكبةِ من خلالِ نموذجِ فرحة، وانتهاءً بواقعهِ، قدمنا نوعاً من سياقٍ مكانيٍ زمانيٍ للبيتِ كبناءٍ ماديٍ أساسيٍ ذو تجلياتٍ ومعانٍ عميقةٍ بالنسبةِ للذاتِ والمجموعةِ العائليةِ والمجتمع، ومعَ الادراكِ بأنَّ المعاني الحيويةِ والجماليةِ والعمليةِ للبيتِ تتعدى كثيراً المعاني والتجلياتِ الذاتيةِ والنفسيةِ له، فقد حاولتْ هذهِ المداخلةِ أن تركزَ على المعنى الجسديِ النفسيِ للبيتِ كجسدٍ فعليٍ للعائلةِ ومركبٍ أساسيٍ في الذاتِ، وحيثُ أنَّ هذهِ المعاني النفسيةِ تتجلى في اللغةِ العامةِ في الوظائفِ التي يعطيها المعنى في أفعالِ المبيتِ والاستقرارِ ودورةِ الحياةِ والسكونِ، وفي الشعرِ المتوارثِ والذي أظهرَ الحنينَ لبيتِ الوالديةِ عندَ أبي تمامٍ والبيتِ كموطنٍ داخليٍ وجسدٍ عندِ ابنِ الرومي، والواقعُ أنهُ يمكنُ العثورُ على هذهِ المعانيِ ومعانٍ متعددةٍ للبيتٍ على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ في قصائدَ  مجموعةِ درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا"، أما في القرآنِ الكريمِ فقد تمَ الاعتمادُ على أمثلةٍ من سورة النحلِ والحجرِ تدللُ على أن البيتَ أيةٌ الاهيةٌ، وفي الانجيلِ يقدمُ السيدُ المسيحُ مثالاً على الايمانِ يربطهُ بمكانِ إقامةِ البيتِ وقوتهِ، أما في الأمثالِ الشعبيةِ فقد برزتْ لنا للبيتِ معانٍ تتعلقُ بالحدودِ والتربيةِ والموطنِ الداخليِ والأدوارِ الاجتماعيةِ وتقسيمِ العمل، أما في اللغةِ الخاصةِ فقد وفرتْ لنا الأعراضُ والمواقفُ الحاليةُ الناجمةُ عن هدمِ البيتِ والهدمِ الذاتيِ مجموعةً من الدلائلِ على التأثيرِ النفسيِ والفكريِ والاجتماعيِ على فقدانِ المنزلِ، كمثالٍ، عرضيٍ، على المعنى النفسيِ العميقِ للبيتِ في الذواتِ والمجموعاتِ، وأخيراً وفرتْ لنا الأحلامُ في هذا المستوى الخاصِ من اللغةِ أو المحكيِ أمثلةً متعدةً على المعاني المتعلقةِ بالبيتِ أو أجزاءٍ منهُ في الحلم.

أما البعدُ النظريُ لهذهِ المداخلةِ فهوَ في المعاني التي يقدمُها لاوعي المنزلِ في فهمِ التحليلِ النفسي، والتي اعتمدنا فيها بالأساسِ على أعمالِ عددٍ محددٍ من الذينَ قدموا مساهماتِ تحليلٍ نفسيةٍ في معنى البيتِ في الحياةِ النفسيةٍ وفي الحلم، وفيها برزَ لنا أنَّ البيتَ بالفعلِ جسدٌ عائليٌ بالمعنى الواقعيِ والمعنويِ، وبأن مساحاتِه مشحونةٌ بالمعاني والدلالاتِ النفسيةِ، وظهرَ لنا هناكَ بأنَّ غرفةَ نومِ الزوجينِ التي تدورُ فيها الحياةُ الجنسيةُ والزوجيةُ هي مركزُ البيتِ ومنها تشعُ التفاعلاتُ الأخرى، وأن تنظيمهُ وشكلهُ يعكسُ جوانبَ كثيرةً من الحياةِ لمجموعِ الأجسادِ التي يحتويها، وأنَّ فقدانَه والانفصالَ عنه يمثلُ محنةً نفسيةً، وصدمةً في حالِ الفقدانِ القصري. وبرزَ أيضاً أنهُ لو ربطنا المعاني التراثيةَ التي تمَ تقديمُها هنا للبيتِ معَ تلكَ التي يقدمُها الفهمُ التحليليُ النفسيُ لوجدناها تتفقُ من حيث أن البيتَ هو جسدٌ ماديٌ للعائلةِ يعكسُ روحَها وعلاقتها، ويمكنُ للمعنى الرباعيِ للبيتِ والدارِ والمنزلِ والسكنِ أن تجملَ المحاورَ الأساسيةِ التي يتعاملُ فيها التحليلُ النفسيُ مع البيتِ، غرفةُ النومِ في المركزِ حيثُ مبيتُ الزوجِ، ونوعيةُ العلاقاتِ التي تدورُ فيهِ، والاستقرارُ الذي يميزهُ والسكينةُ التي تمثلُ ضمانَ مستقبَله. أما فيما يخصُ معنى البيتِ في الحلمِ فقد توقفنا من ناحيةٍ نظريةٍ مع تقاطعاتهِ التراثيةِ مع معاني التحليلِ النفسية، وقد تبينَ لنا هناكَ أنهُ في التفسيراتِ التراثيةِ تتوفرُ أيضاً دلائلُ كثيرةٌ على نوعٍ من التقاربِ المدهشِ بينَ تفسيراتِ القدماءِ وتفسيراتِ التحليلِ النفسية، وأنَّ هذهِ التفسيراتِ تجعلُ البيتَ تارةً جسدَ الرجلِ وحالَهُ النفسيةَ والماديةَ وبأنَّ البابَ فيهِ يأخذُ معانٍ جنسية. أما من ناحيةٍ منهجيةٍ فقد أعمدتْ هذهِ المداخلةُ على منهجيةِ النموذجِ التي هيَ أيضاً منهجيةُ دراسةِ الحالةِ في التحليلِ النفسي، وهي منهجيةٌ قديمةٌ حديثة، تقعُ حسبَ جورجيو اغامبن( 2002) في "ما هو النموذج؟" في المنتصفِ من حيث قدرتِها على خدمةِ الاستقراءِ والاستنباط، والتي من وجهةِ نظرِ هذه المداخلةِ الأكثرُ قدرةٌ على عكسِ العملِ العياديِ وإنتاجِ المعرفة التحليل نفسية.  

ويمكنُنا هنا أن نضع مجموعة من الاستنتاجات الأساسية الممكن من هذا العرض، فأولاً، أصبحَ لا شكَ لدينا أن معنى البيتِ كجسدٍ عائليٍ أو حتى حدودٍ خارجيةٍ وداخليةٍ للأنا، يمكنُ التدليلُ عليهِ في أكثرِ من موقعٍ في المادةِ المعروضةِ هنا، سواءٌ في اللغةِ العامةِ أو اللغةِ الخاصة، ويمكنُ أن يبنى على هذهِ النتيجةِ بأنَّ الأرضَ أو الملكيةَ الفرديةَ الحديثةَ غيرتْ الشروطَ الأساسيةَ للبيتِ الفلسطيني منذُ لحظةِ دخولِ الاستعمارِ للشامِ الجنوبي (فلسطين الغربية) في منتصفِ القرنِ التاسعِ عشر، وأنهُ لا يمكنُ فهمُ واقعِ البيتِ الفلسطينيِ كجسدٍ عائليٍ واجتماعيٍ إلا من خلالِ رؤيتهِ ضمنَ شروطِ الاستعمارِ التي تمتدُ لاكثرَ من قرنٍ ونصفِ القرنِ،  وهذهِ الشروطُ الاستعماريةُ التي تظهرُ اليومَ على شكلِ هدمِ وبناءِ بيوتٍ لا تختلفُ كثيراً من ناحيةِ المبدأ والغايةِ عن سياسةِ الموتِ والحياةِ التي ينتهجها الاستعمار، ففي نهايةِ المطافِ فأنَّ هدمَ البيتِ أو تخريبَهُ أو استخدمَهُ كسجنٍ أو الاستلاءُ عليهِ كجسدٍ عائليٍ لا يختلفُ بالمطلقِ عن قتلِ وجرحِ وأسرِ الجسدِ الفلسطينيِ وفي كلا الحالتينِ الغايةُ النهائيةُ سواءً عن قصدٍ أو غيرِ قصدٍ هو الذاتُ الفرديةُ والجمعيةُ كموضعٍ للهدمِ أو إعادةِ التشكيلِ أو التبديل.

أما من ناحيةٍ أخرى فأنَ البيتَ، في أبعادهِ النفسيةِ والذاتيةِ كما يظهرُ من أحلامِ المسترشدينَ/اتِ فأنهُ يؤكدُ على عمقِ المعاني الذاتيةِ للبيتِ وأجزاءِها ورغباتِها في لاوعي الأفرادِ، وهو يأخذُ معانٍ متباينةٍ حسبَ الحالةِ أو الوضعِ الفرديِ الواحد، لهذا فأنَّ تفسيراتِ معانيهِ تخضعُ للوضعِ الخاصِ الذي يتعلقُ بصاحبه، لكنهُ في المجملِ يعكسُ أحوالَ الذاتِ وصراعاتِها ومخاوفَها ورغباتِها وجوانبَها النرجسية. وهذه النتيجةٌ إذا ما أضيفتْ للنتيجةِ السابقة لظهرَ لنا، بأنَّ سياسةَ هدمِ البيوتِ في جوهرِها تخدمُ عمليةَ التشكيلِ والإحلالِ لا فقط للمكانِ من خلالِ البيتِ كجسدٍ عائليٍ واجتماعيٍ ولكن أيضاً الضيقَ والخللَ النفسيِ الذي يمكنٌ أن يتركَه هدمُ بيتٍ أو طردُ أشخاصٍ منهُ في مركزِ وقاعدةِ الذاتِ النفسيةِ هذه. 

 

 

Bibliography

Agamben, Giorgio. 2009. What is Paradigm?.  Filozofski Vestnik 30 (1):107-12

Eiguer, Alberto. 2009. L'inconscient de la maison. Paris : Dunod.

—. 2013. Votre maison vous révèle :Comment être bien chez soi. Paris: Michel Lafon.

Freud, Sigmund. 1985. "The Uncanny ." In Art and literature , by Sigmund Freud, 339-376. Middlesex:

Penguin Books.

Patrice Huerre & Francoise Robine. 2017. Lieux de vie : Ce qu`ills disent de nous, la revolution des

interieurs. Paris : Odile Jacob .

ابن سرين والنابلسي . 2006. تفسير الحلم وتعطيره: قديمة وحديثه مرتبا على الحروف اإلبجدية . القاهرة: دار الفجر للتراث .

حسين علي لوباني. 1999 .معجم الامثال الفلسطينية. بيروت : مكتبة لبنان .

. القدس : المركز الفلسطيني للإرشاد . أثار سياسية هدم المنازل على الأطفال الفلسطينيين وعائلاتهم .2009. سرور, عنان

سيجموند فرويد. 2003 .تفسير الاحلام . ترجمة مصطفي صفوان. بيروت: دار الفارابي.

 

[1] طبيب ومحلل نفسي ورئيس الجمعية الدولية للتحليل الزوجي والعائلي،

[2] صورنا الذهنية.

[3]  نتماها أو ندمج في ذواتنا.

[4]  العلاقات مع الأقارب والأصدقاء ، حفر لغوي للتدليل على صفة العلاقة.

Small Title

This is a Paragraph. Click on "Edit Text" or double click on the text box to start editing the content and make sure to add any relevant details or information that you want to share with your visitors.

Small Title

This is a Paragraph. Click on "Edit Text" or double click on the text box to start editing the content and make sure to add any relevant details or information that you want to share with your visitors.

Small Title

This is a Paragraph. Click on "Edit Text" or double click on the text box to start editing the content and make sure to add any relevant details or information that you want to share with your visitors.

© 2016 by Murad Amro - Psychanalyses . Proudly created with Wix.com

bottom of page