
ورقة أولى : مدخل لقراءة في الصوت والصورة في التحليل النفسي.
مراد عمرو
محاضرة ضمن لقاءات
2012
كيف يمكن أن نحدثكم عن علاقة متقاطعة لأبعد حد؟ أو كما يسميها البعض " العلاقة بالتمرين الروحي المتقاطع" العلاقة بين التحليل نفسي والفن، تحديدا الفن التشكيلي، هل أحدثكم عن سيجموند فرويد المحلل النفسي "الجد " أما عن لوسيان فرويد الفنان التشكيل الكبير "الحفيد"؟ ربما عن علاقة فرويد ودالي؟ أو علاقة فرويد بدافنشي أو أنجلوا أو سنيورلي؟
العلاقة بين الفن الضارب في التاريخ ، والتحليل النفسي عند فرويد وما بعد فرويد.لا يتعلق الأمر بالحديث عن علاقة التحليل النفسي بالطب فلا علاقة بينهم و أن بدا للبعض غير ذلك، ولا نتحدث حتى عن علاقة التحليل النفسي بعلم الاجتماع، وأن اقتربت، أي أننا عندما نتحدث عن علاقة التحليل النفسي بالفن التشكيلي- التصويري أساسا، فإننا نتحدث عن علاقة حميمة تلتقي في الرغبة والهدف، النظرة والأخر، بالرغم من تضاد وتعارض الأساليب.
لكن ولكي لا يأخذنا الحماس كثيرا، ونبدأ بالتاريخ والأسماء الكبيرة في كلا الحقلين الذين ننوي أن نجمعهم على طاولة بحثنا هذه الليلة، لا بد أن أحدثكم عن أجسادكم، عن حواسكم ليكون ذلك المدخل الأفضل لموضوعنا هنا.فنحن نتحدث عن الحواس في كلا الحالتين، النظر والسمع، الصورة والكلمة، ولننظر إلى هذه الصورة التي أمامنا هنا، أليست هذه صورة وصوت؟ في الأغلب ستقولون، نرى الصورة، ولكن أين الصوت في الصورة؟ ولاشك لدي أنكم حزرتم اسم الفنان، ولكن ما أسم اللوحة ؟ le grand masturbateur Salvador Dali ، "المستمني الكبير"، في باريس ، 1929.
ونعود للسؤال، أليس عنوان المحاضرة الذي قرأته أعيونكم بالرغم من موضعه في أسفل الصورة، هو أمر مختلط، صور أصوات ، رموز أصوات ، هذه الرموز عندما ننظر إليها نسمع الصوت الذي ترمز إليه في داخلنا أو ننطقه للعالم الخارجي، أنها أصوات مرمزه، ونحن واللوحة والأشياء يمكن أن نكون رموز ، بل نحن رموز. ألم تسمعوا أسم الفنان في صدوركم و ربما في همس أو كلام أحد الحضور، "الصوت والصورة"، عنوان غير متحيز فهو لا يقدم التحليل النفسي" العلاج بالكلام" كما أسمته أحدى منتفعات فرويد، على الفن التشكيلي أو التصويري إذا ما أردتم. بل أن في كلا الحقلين الصوت والصورة حاضرين بقوة،بل كلي الحضور، والدليل قادم ، وليس من عندي بل من عند ذلك الرجل الذي لم يهمل الجانب الروحي للتحليل النفسي على خلاف أكثر المحللين النفسين من بعد فرويد، وأقصد جاك لكان الطبيب والمحلل النفسي الفرنسي ( 1901 – 1981). وهو أمر سنعود له في حينه.
ولكن دعونا نتأمل في الأمر من حقل أخر مرتبط تمام بالتحليل النفسي و الفن التصويري، في الدين، في الدين المسيحي أولا لأنه ربما أكثر الديانات التوحيدية علاقة بالفن التصويري، حيث رافق الفن التشكيلي الدين المسيحي منذ منشأه، رمز " السمكة" أو " الصليب" أكثر تأصل وقدما من الرمز الإسلامي واليهودي ربما، وإليكم هذه الآية الإنجيلية من يوحنا تلميذ المسيح الأقرب ، أو تلميذ المسيح الذي تقول المصادر أنه محبوب المسيح:" وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً، وَخَيَّمَ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ رَأَيْنَا مَجْدَهُ،" الكلمة صارت صورة ، الصوت صار صورة " رمز" وحل بيننا، وأبصرنا مجده. أليست المسيحية بهذا المعنى هي دين تحويل الصوت " الكلمة" لصورة جسد المسيح. لكن الإسلام وعودا على بدء إي الدين التوحيدي الأول لموسى، يشفر الصوت إلى صور محيطة بنا ،فليس مهما أن نرى الله بالجسد، بل ليس لدينا أدنا فكرة عن صورة الله، ولكن القرآن لا يكف عن حثنا للنظر في الأشياء، بل بلغة أكثر دقة أن نمعن النظر في اللوحة التي رسمها، خلقها الله، نعم اللوحة الكبيرة التي أمام ناظرينا، بكل ما فيها من دلائل على معنى كلمة الله الغير مجسدة "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿١١٧﴾"، " أفلا ينظرون إلى الأبل كيف خلقت" ،" فأرجع البصر هل ترى من فطور"، بل أن القرآن ما بين الحث على التأمل في الصور، وبين تصويرها وتقديمها بشكل صور ترسمها الحروف، هو ربما كتاب تصويري من الطراز الأول- سيد قطب- وهو بالرغم من تحريم التصوير لآياته مليء بالصور والرسوم التشكيلية والفن التصويري، ولن أطيل عليكم ، ولكن ما الذي يمكن أن تحدثه فيكم الآيات التالية:
-
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ﴿١٧﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿١٨﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . البقرة 17- 20.
-
خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿١٦٢﴾
-
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٦٤﴾
-
إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿٤﴾
-
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴿٢٤﴾ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ . يوسف.
صور هي ما نسمع في هذه الآيات، سوء من أجل المطابقة و المشابهة ، أو من أجل غاية قصصية. يذكرني هذا الأمر في النقاش الذي دار بيني وبين صديقي أحمد البابا، في ذات الليلة التي خرجت فيها فكرة هذه المحاضرة للوجود، ولقد كان ذلك حديثا عن وصف أمبيرتوا أيكوا الدقيق لمدخل كنيسة في نهاية القرون الوسطى، وهو الوصف المدخل لروايته الرائعة " اسم الوردة"،حيث نجد أيكوا يمعن في رسم الباب، بتفاصيل لغوية غنية جدا. الشاعر والروائي هم أيضا فنانين تشكيلين، لكن ربما برموز الصوت، الكتابة ، الحروف، وهم يشتركون في كل شيء مع الفنان التشكيلي، غير أن أعمالهم وأن كانت خالدة لكنها تبقى أقل حضورا من اللوحات و التماثيل التي تنظر إلينا كما ننظر إليها، مفتوحة على الأخر كما هو مفتوح عليها، ولا يتطلب الأمر، مستوى عالي من الثقافة أو معرفة لغات أجنبية من أجل التمتع باللوحة كما هو حال الشعر والرواية أو الملحمة.
ولكن نعود مرة أخرى لقصة الصوت في اللوحة، وبدون كلمات تحت الصورة، ولست أعتقد إلا أنكم تعرفون اللوحة وصاحبها، ولكن لنقوم بهذا التمرين: لمن هذه الكلمات في رأيكم ؟
أتمشى مع صديقين / الشمس تغيب/ اشعر بنفحة من المناخوليا " الحزن" / وفجأة تشتعل السماء بالدم الأحمر/ أتوقف، واتكاء على درابزين متعبا حتى الموت/ أنظر إلى الغيوم الملتهبة كالدماء والسيوف/ في الأعلى زقاق يركض بلون أزرق غامق، فوق المدينة/ يبتعد أصدقائي/ وأبقى ارتعش من القلق/ أبصر شيء ك....صرخة طويلة بلا نهاية تجتاح الطبيعية.
للحديث بقية ، وللوصف تتمة، ولكني أعتقد أنكم عرفتم من المتحدث الآن ، أنه أديفور مونش، في لوحة "الصرخة". وندخل في صلب الموضوع لا من خلال فرويد ، ولكن من خلال جاك لكان :
" اديفور مونش والذي هو منتج اللوحة المشهورة ، ألمسماه بالصرخة، التي هي شيء، شكل يبدوا لي مناسب لتمرير نقطة أساسية وعميقة، في موضوعها الكثير من المضاربات ، فلقد تم استنفاذ الكثير من الجدل حول الشيء الذي اسمه " الصمت" ، من المبهر أنه ومن اجل تصوير الصمت، لم أجد أفضل على إحساسي من هذه الصورة، اللوحة التي شاهدتموها جميعا، والتي أفكر فيها وأسميها " الصرخة"، في هذه اللوحة المرسومة بشكل فريد، العارية بخطوط مركزه، ترسم بنوع من الجزئية الثنائية في العمق، منظر طبيعي بانعكاساته، بحيرة تشكل جيدا حفره في المنتصف، في الجانب الأيمن خط مائل ، في المقابل يقوم طريق هارب بقطع حقل اللوحة، في العمق نرى شخصين عابرين، ظل نحيف يبتعد في نوع من صورة غير واضحة. في المستوى الأول يوجد هذا الكائن... هذا الكائن يعيد أنتاج ما في اللوحة لا يمكننا أن نقول بأنه حتى مجنس sexué /
لربما أن مونش في بعض تلميحاته شدد على أن هذا الكائن ، كائن صغير، وانه بنت صغيرة ، ولكن نحن ليس لدينا أسباب خاصة بان نفهم هذا الكائن على أنه كما قلنا أو قال هو.
هذا الكائن الموجود بصيغة عتيقة في اللوحة، بما تبقى من شكل بشري في تقليصه، وبالنسبة لنا فانه – أي هذا الكائن- لا ينقصه القدرة على أثارة ما لهذه الصورة من أيجاز، أنها المعاملة الأكثر لكائن قضيبي:- هذا الكائن الذي يسد أذنيه، ويفتح فمه كبيرا، أنه يصرخ.
ماذا يعني أن نصرخ ؟ من يسمع هذه الصرخة التي لا نسمعها؟ إلا يُفرض سلطان الصمت هنا والذي يبدوا أنه يظهر وينزل في هذا الفضاء المتمركز والمفتوح؟ يبدوا هنا أن هذا الصمت هو بشكل ما الرابط الذي يميز بحضوره كل تغير متخيل لهذه الصرخة. وبالرغم من ذلك، فان ما هو حساس هو أن الصمت ليس عمق الصرخة .... حرفيا، يبدوا أن الصرخة تثير الصمت أو تدفعه، وتلغيه، وهو حساس لأنه هو ما يحدثها او يسببها، انه ما يدفعها للطفو، أنه ما يسمح له بالظهور كمعلم. الصرخة هي ما يدعم الصمت، وليس الصمت ما يدعم الصرخة، الصرخة تعمل بشكل ما على أن يفيض الصمت، ومن نفس الممر الذي ينبع منه هذا الصمت، لكي يفلت هذا الصمت.
هذا الامر تم انجازه في لوحة مونش، الصرخة مخترقة من فضاء الصمت، بدون أن يسكنها، من هنا فان الصمت والصرخة مترابطات لا من حيث أنهن هنا مع بعض، ولا لأنهن يتتبعن ، ولكن لأن الصرخة هي الخليج الذي يندفع فيه الصمت.
ومع ذلك هذا الصمت، المرمز وظيفته موسيقية بشكل ما، ومنسجم بقدر المستطاع بالرغم من تباينه مع النص ، الصمت الذي يعرف الموسيقي كيف يخلقه في لحظة ما، والذي هو أيضا بأهمية النوتة المدعومة، الراحة الصمت هذا الشيء الذي يسمح أن نطبقه فقط على حقيقة " توقف الكلمات".
أن نسكت ليس هو أن نصمت، يقول بلوت في مكانا ما لمستمعيه، كما هو دافع كل واحد يعرف ويريد أن يستمع له، انتبهوا، اصمتوا ، أخرسوا ليست ذات الشيء أنها أمور مختلفة. وحضور الصمت لا يعني بأي شكل بان ليس هناك من يحكي.
ولكن في هذه اللحظة بالذات يأخذ الصمت جودته العالية، وحقيقة أنني أحصل هنا على شيء يشبه الصمت، لا ينفي مطلقا بأنه ربما ، هذا الصمت نفسه هكذا يوظف في زاوية ما من اجل فرش التفكير بشكل متقدم وعالي. إرجاع الصمت إلى أخرس هو إرجاع معقد. الصمت يبني علاقة، نواة مغلقة بين شيء ما له أتفاق وشيء أخر تحدث أو لم يتحدث، هو الأخر، وهذه النواة المنجزة والتي يمكن أن تمسك في لحظة عابرة / مرور، أو في اللحظة الجوفاء هي الصرخة."
من المؤكد أن هذه ليست زيارة لكان الأخير للوحة مونش، وللفن التشكيلي وذلك في سبيل شرح مبادئ التحليل النفسي، والتعبير عن قدرة الفن التشكيلي على رسم المتعة بكل ما فيها من غرائزية، بل أن لكان وخلال زيارته المتكررة طوال حياته كمعلم للتحليل النفسي، لم يستسلم للتحليل النفسي التطبيقي في دراسته للوحات و الأعمال الفنية، بل ترك لنفسه حرية التعلم عن ممثال الذات le représentation de sujet من خلال كشف مونتاج اللوحة أو العمل الفني عن هذا الممثال . ولقد قام لكان بهذه الزيارة النظرية في محاضراته لا عبر الرسم النفسي، ولكن من خلال أقوال الفنان التي يمكن أن تعتبر صدى تشكيلي، ولهذه الغاية أخذ لكان الأعمال الفنية منفصلة ، عمل بعمل، لوحة بلوحة، خطوة بخطوة ، مضافا إليها الإطار التاريخي للعمل، ووسيلة الإيضاح التي تسمح بقراءة الفكرة. اللحظات أو الاقتباسات المحددة وطريقة تكريسها كانت دعائم المعالجة النظرية لدى لكان للفن. ولقد عمد لكان بشكل كبير لتجريد الأمور،وقحط الطبقات، وترميمها وأعاد للمسات فكرة الممثال المقذوف بين" الصورة البراقة" ، الدال والمواضيع الغريزية. وهنا يمكن القول بأن الرسم، الفن التشكيلي لم يقتصر على تصوير فرضية لكان، بل ذهب أبعد من ذلك من خلال مساهمة الفن التشكيلي في أنتاج فرضيات لكان.
وفي المقارنة بين مرحلة المرأة عند لكان واللوحة عند الفنان التشكيلي، يمكن أن نرسم طريق لكان حيث نجده يقبض اللحظات ويحلل" تفسخ" الممثال العاكس Représentation spéculaire الموجود في الرسم التفكيري للعين و الشكل الجيد، والهدف في النهاية أظهار/ أعادة أظهار الممثالات الغرائزية التي تدفع باتجاه تكوين وبناء الصورة التي تتيح النظر " من خلالها" أو عبرها أو من تحتها للذات. ويؤخذ لكان الكلمة الفرنسية portraite و يقوم بقسمتها لكلمتين port-traite والتي تعني بالعربية " باب- الصفات"، والواقع أن مرادف الكلمة الفرنسية في العربية هو " فن رسم الأشخاص" أو "صورة "، و لا أستطيع أن أمرح كثير في محاولة الوصول لمقاربة لغوية عربية مشابهة، لكنني لا أفقد الأمل في أن أحاول، ولأن المرادف بالعربية هو ثلاث كلمات كما هو حال المرادف في الفارسية چــِهره نِگاری، التي تعني بالعربية ولغات أخرى "وجه الصحافة"، أي في كلمتين، أما العبرية דיוקן فلا تعني إلا صورة بالعربية ولغات أخرى، وعلى كل فان المصطلح الأكثر شيوعا لهذا النوع من الفن بين الفننين بشكل خاص والمثقفين بشكل عام هو بورتريه، وهو بالمناسبة اللفظ الفرنسي على العكس من اللفظ الانجليزي، بورترت. فهل كان لكان مصيبا في تلك التسمية، لذلك النوع من الفن التشكيلي بالرسم، أو حتى التصوير على أنه باب صفات الشخص في الصورة؟ فالكلمة الفرنسية التي يقطعها لكان كالجزار الحذق تماما من المفصل، ويوجد فيها كلمتي بورت " باب" و تريه " الصفة" هي المستخدمة على نطاق واسع وفي أغلب لغات العالم.
ويستخلص لكان حقيقة مهمة أخرى من الفن التشكيلي " الرسم " مفادها أن الذات قبل أي شيء تقوم بعمل بقعة في ثبات اللوحة، وهو ما يقوده للتأكيد على ما يمسى في علم السلوك التقليد، مشدد على الجوانب الاستشعارية الملتقطة والمفترسة للفنتازم من حيث يمكن للذات أن تستخرج هذا الفنتازم. ولا يغفل لكان عن تطابق نظرية فرويد حول عمل الحلم من خلال الضغط compression و التكثيف condensation، والتي هي عمليات في صلب شرح فرويد لطريقة أخراج الحلم في اللاوعي و ما قبل الوعي، وتعني أساسا أن يقوم اللاوعي بضغط عدد كبير أو حجم كبير من المعاني والعلاقات والسمات في رمز واحد في الحلم، وهو ذات الأمر بخصوص التكثيف الذي يعمل على تكثيف الرمز الواحد بأكثر من معنى. ويذهب فرويد هنا للقول أن ما قبل اللاوعي يعمد إلى تشفير المعاني الكامنة من خلال ممارسة نوع من الرقابة التي تبقى المعنى الضمني مستور، وبالمناسبة فأن النقل الطريقة الأخرى المذكورة في فهم فرويد لكيفية عمل أخراج الحلم، تستخدم للتمويه أو لنقل ، إزاحة موضوع له علاقة بالموضع الأصلي في المشهد، أي أنه يجب أن نكتشف العلاقة مع الموضوع الأصلي الغير متوفر في المشهد. في الفن السريالي ، خصوصا عند دالي نجد مفهوم "الموضوع الشبح" سنعد لذلك لاحقا، ولكن، وبهذه المناسبة فأنني أدعوكم لقراءة ذلك الكتاب المهم في تاريخ تكوين المدارس الحديثة في الفن التشكيلي وعلى رأسها المدرسة السريالية، وسلفادور دالي وأقصد "تفسير الأحلام" ، سيجموند فرويد، 1900.
ولنعود للسؤال المركز في موضوعنا، فنجد أن التحليل النفسي يتقاطع ويتشارك مع الفن في طموحهم لتحويل وترجمة المتعة la jouissance ، فالفن يعالج موضوع المتعة ويجعل منها " إشارات، صور، تماثيل، وأرقام" أما التحليل النفسي فانه منشغل في فك رموز شفرة المتعة بحتمية المرور عبر اللاوعي للتفسير ومعالجة العرض. أي بعبارة أخرى فأن موضوع التحليل النفسي والفن التشكيلي واحد ، شيء أسمه المتعة كما عرفها لكان وفرويد، المتعة هنا لا تقتصر على المتعة ، ولكن يرافقها القلق والألم أيضا، ساد كمثال.
لدى الأشخاص العصابيين، الذين هم أنا وأنتم، فأننا نخبر المتعة على أنها فائض من القلق، لهذا فان ذاتنا تعطيها دلالات سلبية، حيث تخاف الذات من عدم تجاوب الإخصاء مع متعتها. وهنا يجب أن نتوقف قليلا عند هذا الأمر، فالمتعة لدى لكان هي مفهوم نفسي يمتد في أحد جوانبه ليلامس المفهوم القانوني، التمتع بهذا الشكل هو قدرة الذات على الوصول لجسم الموضوع بموافقة الموضوع كذات أخرى ترغب في الحصول على نفس التصريح، وهو بطريقة أكثر وضوحا: المتعة في الحق بجسد الأخر في سرير وعلاقة دائمة، وتقف هذه المتعة أمام القلق من إخصاء الأخر لمتعة الذات، وسواء كان ذلك الأخر القانون الرمزي الاجتماعي أو ممثل الأخر الأكبر، أو الأخر الفعلي " الأخر الأصغر" فأن تجربة الإنسان في المتعة محكومة بمواجهة رفض الإخصاء لها. أما في الفن فأن هذا الفائض القلق أو المقلق من المتعة يوفر له حقل من الترويض، أي أن الفن يروض هذا الفائض وسلبيته، من خلال رسم المتعة أو الفنتازم.
يقول لكان عن هذا المساحة التي يوفره الفن للمتعة :
" يوفر شيء كالمراعي للعين، ولكنه يدعوا من تُقدم له اللوحة أن يسلم نظراته هنا، كما نسلم السلاح".
لكن هذا لا يمنع أن نجد أن القلق حاضرا في الفن، بل وقد يُفاقم الفن القلق، ونقصد ذلك النوع من الفن الذي يرفض أن يخدم الهدوء والسلام ولكن يصمم على أن يذكرنا أو يرسلنا للألم، أو الرعب، والتهديدات على الحياة. لكن هذا القلق يحدث في وجود تفكير، حتى وأن كان يثير اللاممكن غير أنه يوفر الفرصة للتفكير على العكس من العرض لدى العصابي. وكي نتناول هذه الفكرة بأكثر توضيح ، نعود إلى مقالة فرويد في موضوع " المخيف" الشيء المخيف الذي يحدثه فينا الفن، حيث نجد فرويد بهذه المناسبة حائرا في تعريف الكلمة: وترجمتها إلى كل اللغات، بل أن صعوبة ترجمة عنوان مقالته بالألمانية Das Unheimliche تعكس هذا الأمر تمام، ففي العربية يمكن أن نحصل على الترجمة التالية :" والمخيف" أو "غرابة المنذر بالخطر" أو غرابة الشيء المزعج". وبالرغم من أن فرويد يبدأ المقالة بالجمل التالية :
" نادر ما يخبر المحلل النفسي الدافع للبدء ببحوث حول موضوع الجمالية، حتى وأن لم تكن الجمالية محددة على مبادئ علم الجمال، بل على أساس أنها مبادئ علم جودة أحاسيسنا"،
غير أن فرويد، ينخرط في أكثر من مرة في دراسة الإبداع الفني المتمثل في الفنون والآداب، وقد خصص الكثير من الوقت والجهد لتحليل أعمال مايكل أنجلو، خصوصا عمله" تمثال موسى" ، وأعمال ديفنشي وعلى رأسها الموناليزا- الجوكندا. وأي يكن من أمر فان المقالة التي تخصنا، تكشف عن ذلك النوع من المشاعر المخيفة التي تثيرها فينا بعض الأعمال الروائية، ويجادل فرويد طويلا، على معنى الكلمة، الذي يحدد علاقتها بالتحليل النفسي، فHeimliche يتراوح معناها في الألمانية ما بين،" لطيف، مألوف، مقبول" وصولا للشيء "السري الحميم " الذي لا يمكن أن يكشف للأخر، وفي كل الأحوال فان هذا الخوف الذي يحاول أن يقاربه فرويد ، يختلف عن أي خوف إلا المتعلق بأمرين، الشك أن الجماد متحرك، وأن الحيوان بلا روح. أما الأمر الثاني فهو أن تضع معتقداتنا التي تم تجاوزها في الصغر- وجود للأشباح، ولا بابا نويل، ولا الغولة، ولا ، ولا... أو أن الإنسان خالد- في شك. الخلط في هذه الأمور في لحظة ما يؤدي إلى نوع من مشاعر " المخيف"، فأن يأخذنا الروائي في عالم نشك فيه أن الشخصية في الرواية هي بشر أو لا بشر بدون ان يجعلنا نطمأن لأحد الخيرين، هذه الحالة من الشك المقلق، نادر ما تحدث في الحياة، لكن الروائيين أو الفنانين يستطيعون أن يثرونها فينا، ولا نقصد هنا الخيال أو الملحمة ، الحيوانات الخرافية ، فالقارئ أو الناظر يعرف بماهية هذه الأشياء في العمل الفني الخيالي، ولكن هذا الشعور الذي يتركه فيك قراءة رواية" المثل" لدوسيتويفسكي، المثال لي وليس لفرويد، حيث نبقى في شك من أن يكون الرجل الخفي الذي تدل عليه أعماله، والذي يشبه في الصورة والشكل بطل الرواية هو خيال أو واقع، اما فرويد فيتناول رواية ألمانية " رجل الرمل"، حيث تبقى طبيعة الرجل المبهم في عالم الطفل بطل الرواية هي ما يثير فينا الشك والخوف، رجل الرمل الذي تهدد فيه الأم طفلها لكي يذهب للنوم مبكر، فهو يأتي ليأخذ عيون الأطفال، وهو المحامي الذي يزور والده ويختلس عليه النظر من وراء ستارة فيسمعه يتحدث عن بريق النار في العيون، وهو طبيب العيون الايطالي الذي يتحدث عن النظارات والعيون، والذي يخلق مع فنان أخر، فتاه خشبية بعيون جميلة، فتبدوا للشاب على أنها فتاة يحبها، و ينتهي المشهد عندما يكون هو وخطيبته فوق برج عالي فيشاهد المحامي قادم بنظرات غاضبة من بين الجموع ، فيصاب بحالة من الهلع ويكاد أن يلقي بخطيبته من فوق البرج لولا أن أخاها ينقذها، فيلقي بنفسه ويحضر رجل الرمل الذي يقول أن لا شيء حدث له ويختفي بين الجمع. وفي معالجة طويلة لهذا الشعور يربطه في هذه الحالة فرويد بقلق الإخصاء، فالأب حاضر ويتم نقل الخوف منه، الخوف على اقتلاع العيون : النظر، الذي يقاربه فرويد مع أهمية العين كعضو جنسي، ويذكر بنهاية أوديب واقتلاعه لعيونه كندم وعقاب على ما فعل. قلق الإخصاء هذا المفهوم المهم في التحليل النفسي يجب أن لا يمر بدون وقفة.
يقول فرويد :
الشعور المخيف في القصص - الخيال، والخلق الأدبي- يستحق أن يتم التعامل معه بشكل منفصل. انه قبل أي شيء شعور مخيف غني أكثر من ذلك الذي نخبره في الحياة، فهو لا يغطي فقط المخيف في الحياة بل يتجاوزه لتغطية المخيف الذي لا يمكن ان يحدث في شروط الحياة. التعارض بين المكبوت والمتجاوز لا يمكن ان يطبق في هذه الحالة من المخيف الناجم عن الخلق الأدبي بدون أن نعدل عليه في مستوى عميق،....، في المحصلة، التي تخلق أيضا تناقض، والتي مفادها، أن الكثير من الأشياء في الخلق الادبي لا تكون مخيفة، ولا تكون هكذا إلا أذا حدثت في الحياة، ولكن في الخلق الأدبي هناك الكثير من الإمكانيات لخلق ما يثير الخوف" المخيف" أكثر مما في الحياة . ترجمة عن الفرنسية، l’inquiétante étrangeté .
ويعلل فرويد في النهاية اهتمامه التحليلي للفن و الإبداع -بمستوى أدنى من المستوى التحليلي النفسي- لأنه يريد أن يفهم لماذا الأعمال الشعرية والفن التشكيلي وبشكل أقل الرسم تمارس عليه تأثيرا قوي.
التحليل النفسي ليس مقتصر فقط على الاهتمام بالغرائز وتجليات المكبوت، لكنه أيضا يهتم بالإحساس ، ولهذا وكما رأينا فان فرويد لا يحدد مفهوم الجمالية esthétique على نظرية الجمال، ولكن على أساس نظرية جودة أحاسيسنا، و جاك لكان لا يضيف شيء في هذا الصدد عندما يعلم تلميذه بان الجمالية هي " ما تشعرون " مع التأكيد على أن هذا الشهور غير قابل للنقل للغة عليمة. ويعيد لكان الجمالية إلى الجسد، ولكن ليس أي جسد، بل الجسد المنتمي لمحور المتخيل، والمرتبط أيضا بالمحور الرمزي والواقعي. ولقد ألهمت فكرة التحليل النفسي عن الجمالية التي لا تكبت الجسد، بعض الفلاسفة ومؤرخي الفن، Daniel Arasse,Hubert Damisch , Slavoj Zizek.
وفي كل الأحوال فان الجسد لا يمكن تناوله بشكل ساذج، لا في التحليل النفسي و لا في الفن، فالجسد الممنوح في اللغة صفة المكان المنتج للمعنى والإحساس، وهو بهذا جسد معقد: مقطع، راغب، مجنس، وقد أصبح موضوع للعلوم منذ زمن بعيد. التحليل النفسي لا يطبق على الفن ولكن على العرض ألسريري " العيادي"، والعرض هو إشباع وحشي ومؤلم للغرائز، العرض العصابي، عرض ألوسواسي كمثال. الفن أيضا يخلق هذه الأعراض التي يجب تفكيك رموزها، الحب عرض، لكن هذه الأعراض توقظ رغبتنا من خلال اقتراحها علينا بالغة وصور الجديدة على أحاسيسنا، كما أنها تمنحنا استبصار أو أدراك للمناطق المظلمة من متعتنا.
التجربة الروحية مرة أخرى.
في العام 1982 كتب المحلل النفسي ميشيل فوكالد، Michel Foucauld في دروسه حول " تفسير الذات"، بان التحليل النفسي لم يعرف كيف يفكر حول " وجود ... الروحانية ومتطلباتها" فالتحليل النفسي هو هذه الخبرة الروحانية لا أكثر ولا أقل ، فهو التحليل النفسي ، هذه الخبرة الروحية أو التجربة الروحية التي بواسطتها وبدعم من وجود أخر ، تنفذ الذات ( الشخص) على نفسه تحويلات عادلة " دقيقة" وضرورية لكي يصل للحقيقية ، بين قوسين" حقيقته"،- هنا لابد من توضيح، أن يكتشف المرء في التحليل النفسي أن علاقته تنتهي لا لأن هذا القدر، أو لأن الأخر سيء ، أو ، أو ولكن لأنه هو لا يمكنه بسبب قلق هستيري أن يستمر في تلك العلاقات، حقيقة عن ذاته. حقيقة عن كيف يفسر العالم، وحقيقة عن سبب هذا الربط أو التفسير الذاتي.- إذا شرط التحليل النفسي الوحيد لهذه التجربة الروحية هو وجود محلل نفسي، وهنا لا بد من القول بأن التحليل النفسي ليس علم نفس ولا يندرج تحت مفهوم الطب، يقول لكان" في التحليل ليس هناك ما نعالجه نفسيا" ، وليس التحليل النفسي فن، ولا المحلل فنان، وهو ليس دين، بالرغم من بعض الميل أحيانا، ولا هو بسحر بالرغم من بعض المظاهر أحيانا، وليس علم بالمعنى الحرفي، وليس ظلاله أو هذيان ، التحليل النفسي هو عمل العميل الروحي،وليس التحليل النفسي قريب من شيء بقدر قربه من أن يكون تمرين روحي، وظيفة المحلل فيه أن يكون عميل للروح.
لقد كان حتما على التحليل النفسي أن يأخذ بالحسبان وعلى محمل الجد تأثير الصور على الذات، أو "الكائن المتكلم" كما يقول جاك لكان عن الذات البشرية،أو الكائن البشري، كائن متكلم، ولقد رأينا كيف أن كل من فرويد من قبل وجاك لكان قد اهتموا بهذه القضية. فهذه الصورة عادة ما تصدر عن اللغز وتسبب الاضطراب. لكن الفن – وخصوصا في الرسم - يستولي على المشاهد ليصل لحياته الحميمة من خلال ألخلق والإبداع. في المقابل فأن مهمة التحليل النفسي هي البحث عن طريقة لتنوير وتفسير هذه العوالم الحميمة. ومن هنا فان التحليل النفسي والفن التصويري متجهان الواحد نحو الأخر، وبطريقة متبادلة، وتكون نقطة التقائهما وتقاطعهم ما يمكن أن نسميه الانفتاح على الأخر. فالصورة مصدر معاناة في التحليل النفسي، أنا وأنتم( العصابيين) كما أسلفنا وحتى أيضا الذهانيين (أو المجانين باللغة الدارجة)، كلنا نُعانيّ في ظروف محددة من الصورة، الصورة التي من الممكن أن تدهش/ تشده/ تأخذ أو التي يمكن أن تضطهد وتعذب في عالم الأحلام.
نجد لدى كل من فرويد ولكان الذات المقسومة ، clivé عند فرويد، و divisé عند لكان. فالذات الواعية/ الذات اللاواعية، الذات في حالة اليقظة والذات في حالة النوم، في نومه فأن الحالم خاضع لعاطفة حقيقة اتجاه الصور التي يشاهدها، عاطفة " متعة" أو عاطفة " ألم" حتى عذاب واضطهاد لكن في هذه الحالة فأنه وعلى عكس اليقظة فأن المخرج لصور الحلم هو اللاوعي وما قبل الوعي. وليس صدفة أن التحليل النفسي وخصوصا سنة صدور كتاب " تفسير الأحلام" لفرويد قد عاصر ، ظهور السينما على يدي الأخوة لومير، و حدوث ثورة في الرسم التعبيري. حيث نجد في هذا الفن تفضيلا للذاتية subjectivité وقوة حدة التعبير وتحرير غرائز العواطف، كثافة اللون ، والكتابة الحرة، ورفض المحرمات، ورفض الواقعية الموضوعية. Réalisme objectif والتعبير عن قوة الحياة و الطاقة. هنا يمكن أن نعود لأدفار مونش حيث نجد رسوم القلق والموت تمهيدا للفن المجرد " التجريد الهندسي أو المفاهمي، التجريد الغنائي، وتجريد أللفتات. الفن الغير تمثيلي Non figurative، التكعيبية بيكاسو وبراك.. الخ.
أن تفسير الأحلام نتيجة التعرجات والأساليب التي ينتهجها يواجه من وقت لأخر بعض المشاكل كما هو حال العمل الحقيقي " هنا عمل الحلم"، والذي كما أسلفنا تحويل الأفكار الضمنية للحلم، أو كما يقول لكان تحويل الرغبة اللاواعية التي تحمل الحلم. فكل ما يتبقى لنا من الحلم هو المضمون الظاهر، أحيانا قصاصات، عناصر سخيفة ظاهريا، بل ومرتبة بطريقة غير مفهومة، وهذا الشكل الذي يبقى عليه الحلم يدلل على أن الرقابة التي يمارسها أساسا ما قبل الوعي قد قامت بالعمل الكامل من اجل حماية الأنا من المضمون الكامن، الرغبة اللاواعية. وأمام الحلم أو ما تبقى من الحلم لا يجد المحلل النفسي إلا أن يُخضع الصور للكتابة في محاولة لإيجاد الأفكار التي تمثلها هذه الصور. والواقع أن ما يهم المحلل في الأساس هو الكتابة لكي يستطيع أن يقرأ مع المُحلل أفكاره في سبيل تسهيل الوصول لتفسير.
هنا لا بد أن نشدد على أن الممثال représentation ليس دائما ومنهجيا الصورة ، والعكس صحيح ، فالصورة ليست دائما ومنهجيا الممثال. والترجمة الحرفية ل Représentation هي " أعادة تقديم " ، وهو المعنى الذي يستدل عليه التحليل النفسي الفرنسي من خلال تقسم الكلمة إلى " Re" أعادة ، Présentation”" تقديم. أي أن يتم تقديم الشيء مرة أخرى ، كما هي الذات لدى لكان، فالذات مقدمة من خلال دال signifiant، الذي هو المادية الصوتية للكلمة : طارع، مارع. لنسأل هنا، ما هي الصورة الصوتية التي تثيرها فيكم هذه الكلمات؟ ما هو تأثير أن تكون الأصوات قريبة من كلمات ودلالات مختلفة. فعندما نستخدم هذه الكلمات فان المستمع يسمع ربما الكلمة القريبة ذات الدلالة ويتأثر في هذا الأمر حسب موضوع انشغاله الشخصي، فشخص يسوق سيارة ، قد يسمع الكلمة على انها شارع، وشخص ينتظر عودة حبيب او قريب، قد يسمعها راجع، وشخص مستاء من أخر ،قد يسمعها مايع، وشخص منشغل في عمل فني أو حرفي قد يسمعها بارع ، وهكذا.
وبهذه الطريقة ومن خلال لكان ، فأن الذات غير قادرة على أن تُسمى، وأن تقدم كاسم في قواعد اللغة، مثل الأرنب من دال إلى أخر، لان أسم الشخص المكتوب لا يدل عليه وهو يمكن أن يكتب بنفس الطريقة التي نكتب فيها عن الأرنب، أكل الأرنب الجزرة، لسنا بحاجة لنقول ما اسم الأرنب أو الجزرة، وليس مهما جدا أن تحضروا لي صور لأكون أكثر قربا من شهية الأرنب، ولون الجزرة، الأرنب هو الأرنب، والجزرة هي الجزرة. أما الذات فأنها بحاجة لصورة من أجل أن تأخذ معناها الكامل في الكتابة أو الوعي أو في التشفير الكتابي أو الصوتي. وإذا ما قال لكم أحدهم : أحمد أكل الكعكة، فأن علاقتكم بهذه الصورة تختلف من شخص يعرف احمد و شخص لا يعرفه ، هنا تكمن أهمية الصورة في علاقتها مع الذات البشرية، ولكن ليس فقط مع الذات البشرية ولكن مع إنتاجها حتى، فأن يأكل احمد الكعكة ، فأن الصورة يجب أن تكون لأحمد ولا شيء غير أحمد، ولكن إذا ما قلنا هاكم صورة احمد يأكل الكعكة التي أعدها خالد، فأن الصورة هنا حاضرة تمام،احمد ، خالد، والكعكة التي أعدها خالد.
وفي الوقت إلذي أقتصر فيه فرويد على استخدام نظرية أو أدوات التحليل النفسي " الوعي/ اللاوعي/ ما قبل الوعي" و " الأنا ، ألهو، و الأنا الأعلى" في سبيل فك شفرة اللغة الهيلغرافية للحلم كما يحب أن يسميها فرويد، فأن لكان أدخل للمجال التحليلي نموذج ثلاثي اُستخدم أيضا في النظر في قضية التفسير.
الرمزي : هو حقل الكلمة اللغة الإشارة و الرمز.
الواقعي : المستحيل ، المستحيل على التخيل، المستحيل على الترميز، المستحيل على أن يتم قوله أو أمساكه من خلال دال.
الخيالي: حقل الصورة، وقوة الصورة، التي تسطير في عالمنا المعاصر، يعني الأنا المتخيلة في الوعي، ومعززات الأنا، النرجسية ، تقديم الذات وإعادة تقديمها.
كما وأضاف لكان مصطلحان ذو أهمية عالية ، الذات sujet والحقيقة vérité . وهي مصطلحات تفيح منها رائحة الروحانية.
ولقد أستفاد لكان من هذه النماذج والمفاهيم في إعادة ترميم تفسير فرويد لبعض الأحلام مثل حلم حقنة أرما.
المتخيل : التنافس ، الخطأ حدث من زميل.
الواقعي : واقع الجسد الذي يحاول الاقتراب منه لكنه يرفض بقوة.
الرمزي : الحروف ، المعادلة ، فلقد شاهد فرويد معدلة الكيمياء العضوية لتحلل السائل المنوي،
المشهد له بواعث جنسية، المعادلة المكتوبة أمام فرويد بحروف كثيفة، وهو الامر الذي يمثل بدون شك، أو الصورة التي تدعوه لعدم البقاء في الحلم، نتيجة الرعب من الواقع لانفتاح جسد الأخر، حلق أرما، المفتوح للطبيب، ولكن أيضا للرجل فرويد. هنا يحاول لكان أن يشد الإنتباه إلى أن الكتابة ( اللغة /الحروف) تتجاوز الصورة وتريد أن تسيطر عليها. الذات الواعية في أرضها الغبية كما يسميها لكان تنظر بدهشة دون أن تفهم شيء، وهنا يأتي دور التحليل النفسي في كشف معنى الحلم، لكن هذا المعنى لا يمكن ان يثبت بدون الكلمات، أي أن الكلمات في هذه الحالة تقوم ب dé fixé قتل الصورة.
بالرغم مما سبق فأننا نجد عند فرويد توجه وعلاقة أخرى مع الصورة، علاقة متناقضة مع السابقة التي تحدثنا عنها، حيث نراه متأثرا بصورة يفلت معناها لوقت أطول مما لصورة الحلم. هذه الصورة ، هي النظرة، هذه العاطفة بدأت عند فرويد عندما بدء يهتم ب" الذاكرة- الشاشة" ، والتي تظلل الذات من خلال بعض التفاصيل المظللة. " اللون الأصفر في زهرة الهندباء، المذاق الشهي للخبز، تفاصيل تخوننا من خلال الحصول على إشباع شبه هلوسي نشعره نتيجة أنواع الميول المزيفة والمخلوقة من اجل تبديل الانطباعات الصادمة و الغير جميلة، المكبوتة والمؤلمة،تحويل الذكرى الحزينة لفرحة. بالنسبة لفرويد فان هذا الأمر هو فنتازم لاواعي محول لذاكرة من خلال اثر عقلي "ذاكرة " حقيقي يقابله. يتحول لمشهد تقدم فيه الذات، وصورة يمكن أن نعمل منها لوحة. مشهد معروض على شاشة، وجه لأمر أخر مخفي في المؤخرة " وراء المشهد" يشعره المرء وكأنه بعيد المنال بدون تنافس الأفعال والكلمات في التداعي الحر. لهذا فان هذه الصورة أقوى بقليل من صورة الحلم، أذا صورة كموضع لفك الشفرة " التحليل".
لكان بدوره ، يتوقف عند الذاكرة – الشاشة، على أنها توقف عند صورة، سينماغرافية، ويجد لها علاقة بنائية مع الفتشيزم، fétichisme ، أي كما أن الفتيشي يخلد الموضوع الذي يسقط عليه المعنى الجنسي، بدون أن يعرف السبب، فان العصابي، يتوقف عند ذلك المشهد بذات العلاقة وبذات الطريقة.
ولنعود للصورة، فنجد عند فرويد قصة تلك البورتريه الذاتية ل Luca Signorelli الذي رسم لوحة " يوم الحساب"، وهي لوحة جيصية زارها فرويد، ولكن نسيان فرويد لأسم الرسام في مقام أخر يبدوا غريبا جدا خصوصا إذا ما رأينا مدى سطوع قطعة من اللوحة الجيصية التي تثير تهكم فرويد. وكأن الصورة أبقت على الكلمة الأخيرة . أي أنها صاحبة الكلمة الأخيرة في المشهد، ولا تريد أن تتنازل لوحي الكلمات، أو الكلمة التي هي هنا أسم علم. ونجد أنه كلما تقدم فرويد في عمله أصبح أكثر انجذابا للرسومات أو التماثيل التي تحتوي على رسائل لا يلتقطها" تفلت منه"، ونجده يفسر ذاتيا وبشكل عرضي مرضي تمثال موسى لميخائيل أنجلو، لدرجة أنه قدم موسى- أي فرويد- على أنه قادر على التحكم في مشاعره وغرائزه، ووضع فيه روح يمكنها التغلب على المادة، أي أسقط عليه توقعاته – المقصود دائما فرويد- على موسى ، مؤسس الديانات التوحيدية التي تنفر من الصور كشرط للروحانية الفريدة المعروفة و المقبولة في اليهودية و الإسلام. أوليس في هذا الأمر الإجابة المتطرفة لتسأل فرويد حول القوة الفاتنة للصورة؟ ولكنه موضوع بكلمات حسية وقوية من أجل الهروب من سحر الثبات المميت للصورة.
إذا لدينا من ناحية ، الصورة التي يترك معناها للفهم والتفسير حتى وأن ظهرت بشكل غامض بالنسبة للذات في البداية، صورة الحلم أو المركبات اللاواعية الأخرى. ومن ناحية أخرى، الصورة التي تتجاوز الخطاب والتي تحمل أثار الجمالية المختلفة ، أو أنتاجها المتنوع للأعراض، فتترك الذات فاغرة الفم، خرساء من الدهشة. وفي هذه الصورة الأخيرة، ما نقصده عندما نتحدث عن التأثير الفاتن للصورة، أو القوة الفاتنة للصورة، ومن هذه الصورة أيضا تولد الصراعات حول الخوف من آثار الشغف الذي يمكن أن تتركه على الذات. ومن أكثر تلك الصراعات شهرة، هو ما أطلق عليه " شجار الصور" أو حركات تدمير الرموز الدينية، التي نجدها في اليهودية، المسيحية البيزنطية، وفي الكاثوليكية الغربية، وفي البروتسناتية، وطبعا في الإسلام. Iconoclasme، تدمير أصنام الكعبة، تدمير رموز ديانة أخناتون.
الحلم في العادة يظهر يطفوا من الداخل، لكن الصورة بشكل أوسع تُعطى من خلال الحقن البصري، بدون تحديد من هو مستقبل هذه الحقنة على العكس من الحلم. في الديانة المسيحية نجد حقيقة متناقضة في هذا الأمر ، فالصورة تقوم بدور الناقل، الحامل لرسالة الإرادة السياسية أو الدينية. كما أن لها وظيفية تلبية الغريزة ، المحرك، ويحدث هذا الأمر بطريقة لحظية ليكون جزء من الخطة التي تدعمها الصورة، أي يمكن للصورة على سبيل المثال أن تقوم بدور الناقل لأوامر الأنا العليا " الفاحشة والشرسة" على رأي فرويد، مثال أخر، متعة ممارسة العادة السرية القصرية بسبب مواقع البورنوغرافي. أنه نوع من التضخيم البصري الذي يحولنا لمكفوفين. لا نرى. ومن هنا تأتي وظيفة الصورة على أنها دال نقي، من خلال تقديم الذات المرسومة لدال أخر : في لوحة مونش الصرخة، الصرخة تمثل الذات " أدوفار مونش" للصمت. وبالعكس فان الدال لا يمكن أن يجمع بشكل أولي، إلا بصفته أثر للدال، وهذا يعني المدلول عليه في شكله المجرد في صورة خالصة. يمكن أن نجده في رسوم الأطفال على سبيل المثال، أو في قول شخصية معينة، أو ابتسامة الموناليزا، تلك الصورة اللغز التي كانت موضوع للحديث خلال قرون طويلة، أي أنها لازالت تنتج دلالات ، دال جديد كل مرة، مصنع دالالات من صورة خرساء. صورة ابتسامة الموناليزا هي المدلول عليه ( صورة شخصها) ، في حين أن الجوكندا هي الدال الذي استخدمه دفنشي الرسام في التعبير عنها، الدال الذي يعيد تقديم ليوناردو من خلاله نفسه لدال أخر الذي هو الموناليزا. وربما لهذا السبب لم يستطيع أن ينبذ هذه اللوحة ، بل أراد أن يعطيها لموناليزا لما فيه من كشف عن رغبة ذاته اللاواعية المبهمة.
إذا مرة أخرى، التحليل النفسي والفن التشكيلي لديهما الكثير من الروابط، لكن لدى الفن التشكيلي أسباب متعددة لتجنب التحليل النفسي، الذي يقرأ في الفن التشكيلي، أي يفسره، ولكن التحليل النفسي أيضا يرتبط بالفن التشكيلي من خلال طريقين غير ممكن التوفيق بينهما للانفتاح على الأخر. لهذا السبب نجد من بين الكثير من الفنانين René Magritte يجيب على السؤال" لماذا هذا التجنب للتحليل النفسي؟" بالقول:
" لأنه- أي التحليل النفسي – لا يسمح بتفسير إلا ما هو قابل للتفسير. الفن الخيالي والفن الرمزي يوفران فرص كثيرة للتحليل النفسي من اجل التدخل: حيث يتعلق الأمر هناك ولحد ما بنوع من الهلوسة ( التظليل). أما الفن كما عرفته فانه متمرد على التحليل النفسي. أنه فن يثير السر الذي بدونه لا يوجد العالم، هذا يعني السر الذي يجب أن لا نخلطه بأي شكل من الأشكال بمشكلة، أي كانت صعبة. وأنا أحرص على أن لا أرسم إلا لوحات تستحضر سر العالم. ولكي يكون ذلك ممكن علي أن أبقى منتبه جيدا، أي أن أتوقف عن التماهي تماما مع الأفكار، المشاعر، والأحاسيس. في المقابل فأن الحلم والجنون جيدين في التماهي المطلق. أي شخص عاقل يؤمن بأن التحليل النفسي غير قادر على توضيح سر العالم. فليس لدى التحليل النفسي، ولا حتى لدى الأعمال الفنية التي تستحضر سر العالم ما يقولنه. ربما التحليل النفسي هو الذات الأفضل للعلاج بالتحليل النفسي."
والحقيقة أن الرجل محق، فهذا ما يقوم به التحليل النفسي منذ البداية، تحليل التحليل، ولكن لماذا لا يتسأل التحليل النفسي حول موضوع سر العالم؟ فالدين ، والعلم، والأعمال الفنية لا تقوم بذلك بدون معيقات ، وصعوبات.
ولنعود مرة أخرى للوحة مونش ولكان، حيث نجد لكان يعطي أسماء أخرى للوحة" صرخة الطلب" ، و " صمت الرغبة"، ولا أعود إلى هنا مرة أخرى إلا لكي أحدثكم عن التبادلية بين التحليل النفسي والفن التشكيلي، هذا التمرين المتقاطع بين اللوحة- النظرة الرسامة ( اللوحة كنظرة). حيث يبدوا أن اللوحة أيضا ترسم، تنطبع في الآخر، تدخله بشكل قوي، فناظرها المنظور- العين الناظرة ( كمكان لانطباع اللوحة) ترسم وتدخل فيه كحال الذات في الذاكرة- الشاشة. يقول لكان" من المؤكد أن اللوحة ترسم في عمق عيني، من المؤكد أن اللوحة في عيني. ولكن أنا كائن في اللوحة "
دراسة حالة : سيلفادور دالي.
يقول دالي " الحلم ... رأس ضخم وثقيل يتدلى على شبه جسم مدعوم بشوك الواقع... يتهاوى في الفضاء كما الحلم الذي يوشك أن يبدأ؟" 1945
طفولة دالي.
يمكن القول أن أهم الأحداث التي علقت في تاريخ دالي الشخصي، هو أنه يحمل أسم أخاه السابق المتوفى، أي أنه سمي على أسم الأخ الذي توفى قبل ولادته، ويبدوا من هذه الواقعة أن دالي كان مهووس بوجود أناه المحرف، وصارع من أجل إثبات وجوده الذاتي ، أما في الناحية الأخرى، فلقد لعب الجنس في حياة دالي الهم الأخر، خصوصا إذا ما علمنا أن والد دالي ، كان كاتب عدل ميسور الحال وزبون دائم لدى بنات الهوى، وقد كان على قناعة تامة بان سبب وفاة أبنه الأكبر، كان مرض تناسلي منقول منه، ولهذا السبب واظب على إهداء المراهق سلفادور كتب تحتوي الشقوق التي يحدثها السفلس في الجسد ، من أجل تحذير الشاب من خطورة الجنس. يتذكر دالي تلك الصور على أنها مخيفة ومثيرة للاشمئزاز، وهو ما دفعه لربط تلك الصور و المشاعر بالحياة الجنسية بشكل عام. ولم يكن أمام الشاب الذي عمد إلى تجنب أي اتصال جسدي من طريقة أخرى للمتعة إلا الاستمناء.
وخلال دراسته في مدريد 1921 – والتي لم يكن يعيرها كثير الاهتمام – رافق دالي طلائع الحركة السريالية الأسبانية الشابة ، لوركا، صانع الأفلام لويس بنول. كما أنه في مدريد أيضا أكتشف دالي التحليل النفسي من خلال كتاب فرويد " تفسير الأحلام"، فترك التحليل وكتاب فرويد عظيم الأثر في نفس الشاب، فنجده يقول " لقد كان واحد من أعظم اكتشافات حياتي، لقد كنت مهووس بالتحليل الذاتي، ليس فقط لأحلامي ولكن لكل شيء يحدث لي".
لكن زيارته لباريس في العام 1926 كانت البداية لمرحلة جديدة من التطورات الشخصية والفنية، فلقد قدم هناك واحدة من أول واكبر مساهماته في الفن السريالي ، وهي اللوحة التي عرضناها هنا في بداية المحاضرة، لوحة " المستمني العظيم" ، حيث نجد دالي يعرض من خلال هذه اللوحة كل غرائزه، مستخدما أفكار فرويد ليقدم شخصيته، ومخاوفه ، ووسواسه الجنسي. ونجد أن الشخصية الرئيسية في اللوحة هو بورتريه ذاتي بأسلوب منمق للفنان نفسه، حيث تم أستبدل فمه بجندب يغطي معدته النمل( في طفولته كان لدى دالي خوف غير منطقي من الجراد) هذه الصورة مرادفه لفرس النبي. الجندب مغطى برغبة النمل التي تنخز وترمز لمخاوف دالي الجنسية. ونجد مجموعة من العناصر التي ترتبط بورتريه دالي الذاتي : رأس أسد، خطاف، شخصية امرأة تقترب بوجهها من العضو التناسلي لرجل، قذائف وحصى. رأس الأسد الذي يظهر بشكل متكرر في رسومات دالي يمثل الشخصية القمعية والمهددة لوالده. أما الأشكال الكثيرة الطرية في اللوحة فأنها تعبر عن حزنه الفريد في مواجهة الزمان والمكان. في لوحة أخرى ربما نجد مخاوف دالي الجنسية حاضرة بشكل أقوى، ونتحدث هنا عن لوحته "Espectro del sex Appeal" 1932.
في العام 1929 قابل دالي جاك لكان، ولقد كان لكتب لكان " الذهان العظامي –البرانويا- وعلاقتها مع الشخصية" الأثر الأكبر في تطوير دالي طريقة النقد- العضامي "ترجمتي الخاصة لل" Paranoiac – critical method ، وهي طريقة سريالية طورها دالي في بداية العام 1930، واستخدمها خصوصا في أنتاج الرسوم والأعمال الفنية الأخرى خصوصا تلك التي تحوي خدع بصرية، او صور متعددة.
حيث نجد أن السريالين ربطوا النظريات النفسية حول فكرة الإبداع بالإنتاج الفني، وهنا لا بد من ذكر مساهمة أندري بروتون بكتابه" الأزمات الاساسية للموضوع"، حيث بدء التفكير بالموضوع على أنه ليس فقط موضوع خارجي ثابت، لكن كامتداد لذاتنا الشخصية الذاتية subjective self، ونجد في هذا الصدد واحد من أهم مواضيع السريالية ، تحت أسم الموضوع الشبح. وحسب دالي فأن الموضوع الشبح لديه حد أدني من المعاني الميكانيكية، ولكن عندما يعرض في اللوحة فان الدماغ يثير مواضيع شبح من أنتاج أعمال اللاوعي. ونجد واحد من محاولات السريالية في هذا الصدد في أعمال ارنست ماكس ، وفي طريقة الفرتاج frottage ، حيث يقوم الفنان بفرك طبشورة أو قلم رصاص على ورقة فوق سطح قماشي ومن ثم تنفيذ الصور الشبح المنظورة في القماش على الورق.
ولقد أهتمام دالي بمكون العظام –البرنويا المتمثل في قدرة الدماغ على أدراك رابط الأشياء التي لا ربط منطقي بينها. ووصف دالي طريقة النقد- ألعظامي كما لو أنها" طريقة عفوية لمعرفة غير منطقية قائمة على النقد والموضوعية النظامية بين التداعي و التفسير للظاهرة الهاذية" ، ولقد أشاد أندريه بروتون بطريقة دالي، قائل عنها أنها كانت " أداة ذات أهمية أساسية، وقد استطاعت في الحال أن تُظهر قدرتها على التطبيق في الرسم، الشعر ، السينما،و بناء المواضع السريالية التقليدية، الأزياء، النحت، تاريخ الفن، وحتى في أشكال التفسير".
وعودة لدالي، حيث نجد في طريقته تبديل للسلبية التلقائية للرموز إلى حركة دينامكية لهذاء التفسير، وبكلمات دالي:
" كل طموحي في الحقل التصويري هو أن أجسد صور لا عقلانيتي الصلبة بأكثر أنواع الدقة الامبريالية من الضراوة... " .
العلاقة المستترة بين الأشياء قام التحليل النفسي بالكشف عنها في ضوء نظرية اللاوعي، حيث أنتجت بشكل منقطع النظير تفسيرات غنية، قادرة على الانتشار المستمر. أما هووس دالي المستمر للقراءة المزدوجة للأشياء فيمكن أن نره حاضرا في ال anamorphoses ( رسم خادع،يعطي شكلين، السفير، رسومات علم النفس) ، ونجد لهذا السبب تكاثر ملحوظ للصور المزدوجة في أعمال دالي، ونخص في الذكر عمليه.
El Gran Paranoico ، العظامي الضخم. وEl Enigma Sin Fin لغز بلا نهاية.
وكان لقاء دالي مع فرويد في العام 1938 في لندن، حيث أطلع دالي فرويد على عمله Metamorfosis Narciso ، ويبدوا من رسالة فرويد ل س. تسفيق لاحقة على هذا اللقاء، بان فرويد يشيد بأصالة الفنان الشاب ويستثنيه من ازدرائه العام للسريالية :
" إلى هذه اللحظة كنت اميل في نظرتي للسرياليين والسريالية - الذين يبدوا أنهم اتخذوا مني قديسهم الراعي- على انها ضرب من الجنون العضال. وبالرغم من ذلك فان الشاب الأسباني بعيونه المتطرفة والصريحة، ومهارة تقنيته المحكمة جعلتني أعيد التفكير في وجهة نظري. في الواقع، سيكون من المثير للاهتمام أن تبحث الطريقة التي رسمت بها هكذا لوحات" .
كان دالي الفنان المتنوع، وذلك العبقري المثير للجدل، وغريب الأطوار المتقلب غاطسا في سبر أعماق البحث اللامنطقي واللامنتهي في اللاوعي. ولقد ترك مساهمات ثورية في السريالية، عبر أطار التحليل النفسي الفرويدي، مستخدما لغته الرمزية الصورية / التصورية المزعجة. فدالي يكشف بطريقة نبوية عن أحلام، مخاوف، أمال، وإحباطات الإنسان العصري، ولقد نجح أكثر من أي فنان أخر في وصف والتعبير عن الحنين، الهلع، الشعر، وخربطات زماننا.
دارسة لوحة.
Dream caused by the flight of a Bee around a Pomegranate one minute before Awaking
1944
تعليق دالي على اللوحة " { لقد كان القصد منها} أن تعبر بالصورة للمرة الأولى عن اكتشاف فرويد للحلم التقليدي النمطي المرفق بقصة طويلة. التتابع الآني لحدث بالصدفة يسبب استيقاظ النائم. هكذا مثل، كشريط يسقط على عنق النائم، يتسبب في إيقاظه مع حلم طويل ينتهي بسقوط شفرة المقصلة على أعناقهم، إزعاج النحلة يثير هنا الإحساس باللدغة التي سوف تيقظ جالا".
ونجد وصف علاقة دالي بفرويد في كتاب Bernard Ewell " Provenance is everything" " الأصل هو كل شيء":
" تلميذ وقارئ جيد لفرويد، دالي- الذي لم يتعاطى المخدرات ولكنه أستخدم الكحول خصوصا الشمبانيا وبشكل معتدل- تحول إلى أكثر الطرق غرابة للوصول إلي اللاوعي، لقد عرف بان حالة التنويم بين اليقظة الكاملة والنوم هي ربما أكثر حالة الدماغ أبداع.
كما هو حال فرويد وتابعيه السرياليين، وصف دالي الأحلام والتخيلات كأمور مركزية لا هامشية في التفكير البشري، ولقد بحث دالي عن الطريقة التي يمكنه من خلالها البقاء أطول فترة ممكنة في تلك الحالة الإبداعية،ربما كأي واحد منا في صبيحة يوم سبت كسولة يستمتع بالبقاء في السرير في حالة بين نصف مستيقظ، في حين أننا نستخدم قدراتنا التخيلية إلى أقصاها. لقد أبتكر تقنية مثيرة للاهتمام.
الجلوس تحت الشمس الدافئة في الظهيرة بعد تناول وجبة كاملة ودسمه، والشعور بشيء من النعاس. فلقد كان دالي يضع في حضنه وعاء خلط الألوان، ويحمل معلقة براقة كبيرة بطريقة حرة في يده التي يضعها على صدره، وما أن يغفوا حتى تقع الملعقة من يده في وعاء خلط الألوان وتوقظه، وسيعود العملية مرة تلو الأخرى باستمرار ولفترة طويلة في هذه الحالة ما بين النوم و اليقظة حتى يتمخض خياله عن صور نجدها، مدهشة جدا، ومثيرة جدا، وغير سهلة الفهم جدا وكل ذلك عندما ننظر في لوحاته."
نجد في اللوحة مجموعة من الرموز الواضحة والمختلفة، الرمانة، النمر، الفيل، البندقية، ولكي لا أغوص في تحليل عمل مثل هذا فلقد أخترت لكم تحليل وجدته على صفحات النت ، من صحيفة ال Art Daily للوحة دالي:
" اللوحة تصور امرأة ( غالا زوجة دالي) تنام عارية تستحم بالشمس على صخرة تطفوا فوق سطح الماء في يوم هادئ، ربما في "بورت لليغات" ، فيل بأقدام طويلة ونحيفة بشكل مبالغ فيه، يمشي عبر مدى البحر ويحمل في ذات الوقت مسلة حجرية. بالقرب من المرأة تطفوا قطرتي ماء ورمانة صغيرة ، ومن رمانة كبيرة تخرج سمكة تنفث نمر ينفث بدوره نمر أخر، وأمام النمر الأخير بندقية بنصل تلمس أو تكاد تلمس ذراع المرأة اليمنى.
النصل ، الحربة يرمز لنحلة تلسع، ربما تمثل بهذه الطريقة استيقاظ المرأة المفاجئ من نومها الهانئ. النحلة حول الرمانة الصغيرة معادة بشكل رمزي، النمرين يمثلان جسد النحلة ( أصفر مع خيوط سوداء) الحربة هي شوكة النحلة، أما السمكة فانها ربما تمثل عيون النحلة، بسبب التشابه بين جلد السمكة ذو القشور وعين النحلة المعقدة ذات القشور.
الفيل هو تحريف لنسخة معروفة من تمثال ل Bernini في روما. والرمانة المشابهة العائمة بين قطرتي الماء ترمز ربما لفينوس، على وجه الخصوص بسبب ظلها على شكل قلب، كما يمكن أن تكون رمز مسيحي للخصوبة والقيامة. الترميز الأنثوي يمكن أن يتباين بين الترميز القضيبي والمخلوقات المهددة."
نرى في هذا التحليل أو التفسير للوحة دالي معالجة دالي للمفاهيم التحليل نفسية، وما من وصف أدق من ذلك الذي يطلقه دالي، والذي مر علينا قبل قليل عندما تحدثنا عن ما قاله عن لوحته. أنا شخصيا لم ألتقي بدالي عن طريق فرويد، لكن من خلال المتعة في تقليب كتب لوحات الفنانين في المكاتب بشكل عام، دائما ما شعرت أن دالي يدخلني في عالم خاص وغريب، يخطفني إلى شعور عميق، لازلت أتذكر وقع لوحة دالي "استمرار الوقت" علي، الساعة المتدلية ، الزمن الراكض بل توقف، الزمن الرملي المتسرب، الزمن الرخو في حدة حضور المكان، ربما قصد دالي أمور أخرى، لكن الساعة المثنية على السطح المكاني الحاد تيقظ في أعماقي مدى هشاشة خلطة المكان والزمان في الجسد، فالجسد مكان لكنه زمن، وعلى عكس المكان الذي يشترك معه الجسد بكتلة الثبات النسبية، غير انه يمضي مع الزمن ويتآكل على عكس الحجارة التي مثلت الأعمال الفنية أو مكان الأعمال الفنية للإنسان الأول. المكان أطول عمرا وأكثر حضورا من الزمن، ولكن حتى مفهوم الزمان متغير مائع ورخو مثل ساعة دالي في اللوحة، ولكن في اللوحة الكثير من الأشياء الأخرى، ولا أستغرب أن تكون جزئية الساعة الرخوة على حافة الدرجة أو السطح الحجري المستقيم تبقى أيقونة اللوحة التي تستخدم كدال عليها مجسدا لكامل فكرتها، بالرغم من بورتريه دالي على الأرضية، وغطاء الساعة الصلب والثابت الذي يمثل ربما أن الزمن رغم حركته يبقى حاضر بشكله العام في المكان، لهذا فأنه وان تحرك فأنه مستمر وثابت في قانونه على العكس من دالي الإنسان الملقى على الأرض تحت المكان والزمان.
اما لوحة دالي "بقايا أثار"، فإنها تأخذني إلى حنين بعيد في طفولتي، شيء كبقايا أثار، صورة من أصيل يوم صيفي غائم، في مكان مفتوح على المدى، شعور دافئ، في هذه اللوحة طفولة بعيدة، أثار أو بقايا أثار طفولة، ولكم أن تتخيلوا حيرتي أمام لوحته " إغراء أنتوني"، بالمناسبة هذا الموضوع تم رسمه خلال حقب أوربية متعددة، موضوعها اختبارات القديس أنتوني في صحراء مصر. ومن المؤكد أنني أجازف بالاستمرار في توصيف مشاعري وانطباعاتي من لوحات دالي، ولهذا فسأكتفي بهذا الحد، ولكني لن أترككم إلا بهذه اللوحة لدالي التي اكتشفتها خلال فترة كتابة المقالة، باسم " مراهقة". يمكن بالفعل القول أن دالي كان فنان أستطاع أن يرسم أحاسيس وخيالات وأحلام، وأستطاع أن يرسم القلق في المتعة، والحنين لصورة قديمة، ذاكرة-شاشة.
الامتدادات الفن تشكيلية لسيجموند فرويد.
ليس غريبا والحال هذه أن نجد أن أحفاد سيجموند فرويد على رأسهم حفيده لوسيان ميشل فرويد، قد امتهنوا الفن التشكيلي، ولا غرابة أيضا ان نجد لوسيان فرويد يقول " كل عمل هو بورتريه"، وأن يطبق هذه المقولة في أعماله الفنية التي أحب أن اكتشفها معكم الليلة لختام حديثنا عن التحليل النفسي و الفن التشكيلي، وهو أمر يدفعني حتما للتعريج على مدرسة لندن للفن التشكيلي التي كان لوسيان فرويد من مؤسسيها. ولكن ما الذي يقصده لوسيان وكيف يتطابق مع ما يقوله فرويد ولكان، نعم العمل الفني هو بورتريه، او كما قال لكان باب-صفات، لأنه وأن لم تكن تحوي بورتريه لشخص بعينه فانها بورترية للشخص الذي يرسمها، مشاعره، إحساسه، انفتاحه على الأخر. المحلل النفسي مطالب بالبورتريه عندما يقدم محلليه. أنها بورتريه ما بعد الذات المنقسمة لدى فرويد ولكان، ولكنها باب- الصفات الذي أستخدمه فرويد ولكان من أجل الولوج في حميمة وذوات الفنانين من قرون غابرة على اعتبار أن البورتريه أو اللوحة القديمة لا تقدم فقط موضوعها السياسي أو الديني أو التصويري، ولكنها تخفي كما الحلم جزء من الأفكار الضمنية اللاواعية للفنان.
والواقع أن الإغراء كبير في أن نعرض لفرويد وزملائه في مدرسة لندن للفن التشكيلي. غير أن هذا الامر سيحتاج للكثير من الوقت، ولهذا فلقد قررت أن أعرض للوسيان، لأنه كان بالفعل من أعمدة المدرسة المؤثرة، ولكن أيضا لكونه حفيد فرويد، ولأنه أب لفنانة تشكيلية ومصممة أزياء، وكاتبة روائية، أي من أجل إغلاق دائرة البحث في العلاقة بين الأب المؤسس للتحليل النفسي والفن، بالسؤال الذي طرحه فرويد في بحثه عن سبب تأثير الفن القوي عليه. ولهذه الغاية فسأكتفي بعرض لوحة لكل فنان معروف في مدرسة لندن، مع التركيز على لوسيان الحفيد كدراسة حالة.
نجد لدى لوسيان فرويد كما هو حال رفاقه، تركيز كبير على رسم لوحات البورتريه، أو الأجساد، ولكن قبل هذا وذاك تعالوا نتعرف بطريقة اقرب على لوسيان من خلال باب-صفاته، فنجده يقدم لوحته، " غرفة الرسام"، التي تمثل عناصر عالم الفنان، النافذة، النبات، الحيوان، وقد تطور عمل لوسيان خلال مراحل ثلاث كان أولها متأثر بالسريالية، ومن ثم من بالرومانسية الجديدة حتى وصل إلى مرحلة نضجه النهائي والتي تميزت برسم البورتريه، وقد ركز على رسم أصدقائه، معارفه، جيرانه، عشيقاته، ألخ...
تعرف الموسوعات لوسيان فرويد نقلا عن مؤرخي الفن :
لوسيان ميخائيل فرويد، وسام شرف، وسام استحقاق ( مولود 8 كانون الثاني 1922) رسام بريطاني. معروف أساسا بلوحات البورتريه الغزيرة والمؤثرة في الشكل والألوان، ويعرف على نطاق واسع بأنه فنان بريطاني بارز في عصره. تعرف أعماله بقدراتها على الاختراق النفسي، وبفحصها المربك المتكرر للعلاقة بين الفنان وmodel الموديل "النموذج".
في حين أن موسوعات أخرى تقدم سبب شهرت لوسيان فرويد بسبب رسمه لبورتريه ملكة أنجلترى في العام 2001، البورترية التي أحدثت الكثير من الجدل في الأوساط البريطانية، لكن هذه الموسوعات لا تنكر بأن ل.فرويد بأسلوبه الواقعي، الحاد والكاريكاتوري ، يعتبر من أهم الفنانين التشكيلين المعاصرين،بل واحد من أفضلهم.
في الواقع أن الحديث عن لوسيان فرويد يتطلب أن نتحدث عن حياته الشخصية بشكل سريع. تقول بعض الشائعات بان لوسيان فرويد لديه 40 ابن/ت غير شرعي، لكن عدد أطفال لوسيان المنسوبين إليه من أربع زيجات هو 13 أبن/ه، ويبدوا أن الرجل كان متعدد العلاقات، ويمكن الجزم بان حياته الجنسية والعاطفية كانت متقلبة ومتنوعة، بل يقول البعض أن بعض فناني مدرسة لندن، جمعتهم علاقات حميمة مثلية. وقد قضى فرويد في العام 1970، 4000 ساعة لرسم سلسلة من اللوحات الشخصية لأمه، ليكون بذلك وبحسب بعض المؤرخين الفنين مثل لورنس قوينغ " لقد مضى 300 عام منذ أن اظهر فنان تشكيلي بهذا الشكل المباشر والمرئي علاقته بأمه، لقد كان ذلك ريمربرندت، Rembrandt . ( فنان تشكيلي هولندي برع في رسم البوتريه، 1606 – 1669 ) ". ومعروف عنه قضاء وقت طويل مع نماذجه الموديل، بل وإقام علاقات معهن، فمن بين العدد الكبير من الرسمين الذين رسموا الموديل هنريت موريس، يعرف عنه علاقته الجنسية معها. وقد أقام النقاد الفني Martin Gayford سبعة أشهر مع لوسيان فرويد من أجل رسم بورتريه للنقاد، ولقد كتب النقاد كتاب كامل عن هذا الوقت والعمل مع فرويد. ويخمن غيه فورد بان فرويد يريد أن يقبض /يمسك بفردانية نماذجه بنظرة القوارت omnivorous ( الحيوانات اكلت كل شيء)، ويضيف غيه فورد بان صورته الشخصية النهائية " البورتريه خاصته يبدوا أنها " تكشف أسرار- شيخوخة، بشاعة، أخطاء، أتخيل أني إخفيها عن العالم" ، مشدد من خلال هذا القول على مدى حدة واختراق نظرة فرويد لوسيان"، ولهذا السبب ربما أثارة بورتريه الملكة إليزابيث الثانية في 2001 تلك الضجة والنقد، بل أن أحد أكثر الصحف قراءات وتوزيع في أنجلترى The Sun ، أغدقت بالذم الشديد على العمل ، واصفة البورتريه بالصورة المزيفة.
في كل أحوال فأن لوسيان فرويد يقول " أن الموضوع سيرة ذاتية، أنه كل شيء متعلق بالأمل، الذكريات، الشهوانية و المشاركة" الانخراط" " . ويقول في موضعا أخر " أرسم الناس، ليس بما هم عليه، وليس بالرغم مما هم عليه، ولكن كيف يكونون". ولقد رسم فرويد بورتريه لبعض الفنانين الزملاء المعاصرين له من مدرسة لندن، لوحته سيزان ( فنان فرنسي،1839-1906 يعتبر الجسر بين نهاية الانطباعية في القرن التاسع عشر و بداية التكعيبية في بداية القرن العشرين، بين الفنان الفرنسي ماتيس والأسباني بيكاسو) اشتراها المعرض القومي الاسترالي ب 7.4 مليون دولار، ويميزها الحفر الذي في أقصى أعلى اليمين حتى منتصف اللوحة تقريب، ومعروف عن لوسيان فرويد انتاجه الفن من خلال الحفر على الجلد، etching، في العام 1995 حققت لوحته Benefits Supervisor Sleeping رقما قياس في ثمن لوحة لفنان حي، 33.6 مليون دولار. عانى فرويد في بعض مشاركاته التمثيلية لبريطانيا في المعارض العالمية من رفض بعض لوحاته التي يبدوا أنها كان بالنسبة للجنة الملكية خادشة للحياء.
طريقة عمل لوسيان فرويد :
عرف عن لوسيان ميله لقضاء أطول فترة ممكنة مع موضوع " ذات" لوحاته، وكان يطلب حضور الموديل حتى وأن كان يعمل على جزئية خارجية من اللوحة، وقد تطلبت لوحة لذات عارية 16 شهر من العمل مع الموديل التي لم تجلس أمام الفنان إلا لأربع جلسات بمعدل 5 ساعات للجلسة الواحدة يوميا، وقد أخذ ذلك العمل 2400 ساعة عمل. العلاقة مع نماذجه ضرورية، خصوصا إذا ما عرفنا أن لوسيان كان بارع في قص النكت والحكايا والتقليد، اما بخصوص الصعوبة التي كان يوجهها في أنهاء العمل فانه يقول: " يشعر بأنه أنهى العمل عندما يصبح لديه الانطباع في أنه يعمل في لوحة شخص أخر" .
عادة ما كان لوسيان يبدأ اللوحة بالرسم بالفحم على القماش، ثم يقوم بوضع بعض الألوان في مناطق صغيرة ، ثم ينطلق من تلك النقطة ليتقدم في العمل. لموديل جديد كان يبدأ بالعادة بالرأس كنوع من التعرف على ذات الشخص، ثم يرسم بقية الشكل، وبالطبع يقوم بالعودة من حين إلى أخر إلى الرأس كلما تعمق فهمه للنموذج. عادة ما كان يترك قطعة من قماش اللوحة خالية، كتذكر أن اللوحة في مرحلة التقدم. العمل المنتهي كان إذا، تراكم لطبقات من الدهان الغنية، وأشهر من المراقبة المكثفة.
أليس هذا ما قصده لكان عندما تحدث عن باب – الصفات، فرويد الحفيد بعلم وبدون علم كان يطبق التحليل النفسي في الفن التشكيلي، ولقد نجح كما رأينا في ترك أسمه في عالم راسمي البورتريه، ولم يكن وحيدا في هذه المهمة فكل رفاق مدرسة لندن تأثروا بنظريات التحليل النفسي، وأخذت البورتريه في عالمهم الموضوع الذاتي، لتكون باب-صفات الشخص، العلاقة في عمل فرويد الحفيد في الفن التشكيلي تشبه العلاقة اللازمة في التحليل النفسي لفرويد الجد، الفارق واضح، في أن حرية الفنان التشكيلي في العلاقة مع الموضوع-الذات غير مقيدة أو محدودة على عكس علاقة المحلل النفسي مع الذات-الموضوع.
كأن الحفيد يقول لجده يمكنك من مقامك الأبوي العلمي الطبي أن تتحدث عن الذات الموضوع بالكلام إلى ما لانهاية، يمكنك أن تسمح للغرائز بالتحول لكلمات ورموز يتم تفسيرها، ويمكنك أن تغوص في أعماق الحلم، لكن كل هذا ضمن علاقة محفوفة بالمحافظة والقوانين الطبية " بقوة رمزية " بحضور قوي للأخر الأكبر، أما أنا فافعل ذلك بدون كل تلك القيود، أجرب اكتشافك يا جدي إلى أعمق حد، أغوص في حميمة الموضوع –الذات، واعكسها في صورة. أليست هذه وضيفة المرأة في التحليل النفسي، ودراسة الحالة، وباب-الصفات، أو الصمت الذي يخيم في لحظة ما على غرفة الفنان والمحلل النفسي.
لوسيان فرويد في لوحته غرفة الفنان، يعرض الكوتش كأحد أجزاء غرفة الفنان، بالنسبة له الفن التشكيلي هو نوع أخر من التحليل النفسي بكل ما فيه من عميل للروح، وإسقاط لذات المحلل / الفنان على الذات-الموضوع، أو الموضوع-الذات والعكس صحيح. في غرفة التحليل تكون الأنا مدير للعمليات، من خلال ترميم ومصالحة الأنا الأعلى، بأمر من الأنا التي تسمح في ذات الوقت للهو أن يعبر عن نفسه أن يأخذ تفسير لغرائزه، أما في غرفة الفنان فأن ألهو تخضع الأنا والأنا الأعلى لفعل أمرها، أستمتع، بعيونك وجسدك وتعذب إذا ما شئت، الحياة تلعب في غرفة الفنان، النبات يخلق المنظر الطبيعي، الحيوان يطل بقوة الموضوع القضيبي من النافذة، و القبعة والشال على الأرض، ومركز اللوحة الكوتش. الطريقة السريالية التي يقدم بها لوسيان فرويد نفسه في هذه اللوحة سترافق أعماله حتى النهاية بالرغم من التطور في التقنيات والمرحل الفكرية المؤثرة على مسيرته في البورتريه، لكنها بورتريه على كوتش في الأغلب، لموضع – ذات جالس أو مستلقي. من المؤكد أن المرء يمكن أن يستنتج الكثير من الأمور عن طريقتي الجد والحفيد في التعامل مع الذات- الموضوع، والموضوع –الذات، لكن الأهم من كل هذا وذاك هو أن لوسيان فرويد كما هو دالي وبيكاسو وكل فنان تشكيلي لديهم الكثير ليعلمونه ويتعلمونه من فرويد ولكان والمحليلين النفسين.
دراسة لوحة، للوسيان فرويد.
احترت كثيرا في اللوحة التي يمكن أن تكون موضوع لدراسة الحالة ، فهل أسلط الضوء على بورتريه زملاء فرويد، أم البورتريه الإشكالية للملكة، أم لتحفته في لوحة سيزان، أما في تلك اللوحة المثيرة للانطباع وواسعة الانتشار، . " البنت والكلب الأبيض"، بورتريه لزوجته الأولى Kitty Garman، أو لوحته الأغلى Benefits Supervisor Sleeping ، او لوحاته الأخرى الكثيرة والمتعددة والساحرة. لهذا قررت أن أعالج سريعا مجموعة من لوحاته، بعد أن تحدثت سابق بشكل عابر عن لوحته " غرفة الرسام"، والتي كما أسلفنا تمثل جميع عناصر عمل فرويد، النبات، الحيوان، الغرفة، الكوتش، والملابس الملقاة على الأرض.
دعونا نرى هذه العناصر في لوحات أخرى، ونتحدث عن وجودها وعدمه، مع الحديث عن الموضوع- الذات في للوحة.
في لوحة سيزان ، نجد الفنان الحيوان، والكوتش، لكن النبات ممثل بشكل قوي بالخشب الذي يصنع المنظر الطبيعي، يمكن أن تعطي اللوحة أنبطاع بان الفنان سيزان غير راضي عن الموضوع، في حين نرى أن نساء يحاولن أرضاء سيزان، واحدة من خلال الأهتمام به على السرير الأرض، واخرى منهمكة في إحضار موضوع ما قد يخفف الاحباط، لوحة قضيبية، شهوانية، الفنان، والجسد القضيبي للمرأة. الفنان في اللوحة موضوع كما النساء حوله. الفراغ المقصود يمثل ربما " عدم الرضى" من العلاقة فع الأخر، خصوصا ذلك النوع من عدم الرضى الهستيري، الدائم من موضوع الحب.
" فوائد نوم المراقبة"، أول ما يثير الانتباه في اللوحة هو عدم راحة جسد النموذج، محاولات كثيرة لجسد منكمش مجنس لكنه مقطع وربما مرفض، الشهوانية المعبر عنها في قضبية الجسد على الكوتش مختلطة بمشاعر الحصر الارتباك من نظرة الفنان، مرة أخرى نجد في اللوحة العناصر الأساسية لدى فرويد" حيوان عاري، كوتش، وغطاء كوتش مطرز بالإزهار"، أنها لوحة واقعية حادة ومعبرة.
الفتاة والكلب الأبيض، " الكوتش ، الحيوان" يغيب النبات في تفاصيل اللوحة بين الستائر، و الملابس، ويمكن أن نلاحظ في التوازي بين الجانب الأيسر للفتاة و الأيمن، عينها في يمين اللوحة أعلى نهدها المغطى، تعبر عن مشاعر الأم والحنان، أما عينها في الجانب الأيسر فوق النهد المكشوف، فتعبر عن تلك النظرة الشهوانية الراغبة في إلتهام الموضوع، ربما الفنان كموضوع منظُر من قبل النموذج، وفي الوقت الذي تبدوا فيها اليد اليسرى في يمين اللوحة مستسلمة بخاتم الزواج لرغبة الفنان، تبدوا اليد الأخر الصلبة والأقل أنثوية متحفزة لحماية النهد المغطى ، ربما نهد الرضاعة والأمومة. اما الكلب الحيوان القضيبي فموجود هناك ليعبر عن ذات أخرى، ربما ذات الفنان المستسلمة للمرأة في اللوحة.
ربما نرى ذات الشيء في لوحة فرويد لهنريت، خصوصا في موضوع تقابل وتوازي العيون، يمكن بسهلة ملاحظة اختلاف العين اليمنى عن العين اليسرى ، ربما عين تمثل الرغبة، وأخرى تمثل الألم، أما الجسد فأنه عاري في المنطقة العليا ومتوازي، هنريت تُخفي بيت أنوثتها، ومما لا شك أن أسقطات فرويد على هنريت كانت شهونية بالرجة الأولى في هذه اللوحة، فمعالجة الموضوع خصوصا في الملابس تعبر عن الاختلاف في اللوحة السابقة ، هنريت مركز اللوحة، عارية الجسد المستسلم بكل شهوانيته للجنس، على العكس من جسد كيتي في اللوحة الأولى.
يمكن للمرء أن يقضي ساعة من المراقبة والتحليل لأعمال أي فنان، كما هو حال فنانا الفرويدي لوسيان، وأتمنى أن تكون هذه المحاضرة مدخل للبعض هنا للتعرف على لوسيان فرويد وأصحاب مدرسة لندن، والذين تأثروا كثيرا بالتحليل النفسي.
الخاتمة،
لن أعيد عليكم خلاصة المحاضرة، ولكن أريد أن ألفت أنتباكم إلى التحريم الحاضر بقوة في كل من الدين الإسلامي واليهودي للتصور، من المؤكد ان هذا التحريم يمكن أن يفهم بطريقة أفضل من خلال ما سبق وأسلفنا. العين مدخل الشهوة، العين تأكل، العين تشتهي" الانجيل، القران"، ليس من أبلغ من هذا التحريم الضمني للنظرة في كل من الديانات الثلاث، النار الملتهبة التي تمنع عيون موسى من النظر إلى الله، وتعاليم المسيح التي تحرم على العين الإشتهاء في تحديد العلاقة مع الأخر، الأمر القرأني: " قل للذين أمنوا يغضون أبصارهم ويحفظوا فروجهم"، كما أن الله ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. النظرة المحرمة في الديانات السماوية، نظرة خطيرة ممتعة، يمكن أن تدمر الإنسان من هو شكل الله، أو من النظر إلى الموضوع، يمكن أن تكشف المستور، وأن تفض اللغز، بل أكثر من ذلك تلتهم الأخر، أليس في تعابيرينا العامية " أكلني بعينيه"، من المؤكد أن التعبير يمكن أن يستخدم في أكثر من حالة ، فتاة / شاب يصف شهوانية شاب/ فتاة ، أتجاه جسده، أو رغبة العنف، والملاحظة و المراقبة. مرة أخرى تبرز قصة ايرويس وبسيشي بتجليها التحريم، فبسيشي ممنوع عليه أن ترى جسد الوحش الرومانسي الذي يجتاح جسدها في الليل في الظلمة، شرط أيروس أله الجنس والحب عند الأغريق على بسيشي أن لا تنظر لجسده.
في المقابل، لطالما تعامل التحليل النفسي على أن تركيب ورغبة المحلل النفسي هي رغبة بصبصة، voyeurism، الولوج للعالم الحميم للذات- الموضوع، لتلتقي بنفس الرغبة البصرية القوية لدى الفنان التشكيلي، هل رأيتم فنان تشكيلي أعمى؟
مرة أخرى عيون بسيشي " النفس" على " ايروس " الجسد المجنس والمحبوب، موضوع اللوحة و التحليل يسبب حالة من الألم والإثارة العالية، ويستوجب إفلات أيروس من مدى نظر الفتاة الفضولية والجميلة، بسيشي التي قادها قدرها بسبب غيرة الألهة أن لا تتزوج إلا الوحش الذي سيخطفها من صخرة ضخمة بجوار المحيط، محرومة من النظر لجسد وحش الجمال، كأن فينوس، كانت تريد أن تسرق الدال من المدلول عليه من بسيشي.
نهاية الورقة الأولى.