العلاج بالكلام في زمن العولمة وتحت الاحتلال : الواقع والأساطير
- مراد عمرو- أخصائي نفسي
- Aug 4, 2016
- 34 min read
العلاج بالكلام في زمن العولمة وتحت الاحتلال : الواقع والأساطير
مراد عمرو- أخصائي نفسي

2016
يعيش المجتمع الفلسطيني منذ أوسلو في ظل الاستعمار والعولمة، وفي الوقت الذي تشغل فيه الصدمة الناجمة عن العنف السياسي العقول النفسانية في الحقل الفلسطيني للعلاج فإن الألم والصدمات الفردية تبقى واقعا يواجههم بشكل يومي. إن الواقع الصدمي الذي يخلقه الاحتلال يتخطى الشدة و التردد ولكنه يمثل أساس الصدمة المتتالية والمستمرة والمتشابكة بالنسبة للفرد والعائلة. بالرغم من الأصوات الإيجابية التي تتمسك بفرضية الجلد، فإن الفرد والمجتمع الفلسطيني يُخلق وينمو في ظل نظام سيطرة وتحكم خارجي وواقع تفتيت مكاني وزماني وإنساني. تبقى آمال وطموح الشعب الفلسطيني في الاستقلال في هذه النقطة الزمنية أمام عقبات وتعقيدات محلية وإقليمية، إن اللحظة الزمنية التي تكتب فيها هذه السطور تتزامن مع الأوضاع غير المستقرة والتي تصل إلى حد الحروب في 8 دول عربية اثنتان منها من دول "الطوق" الأساسية ،كما كان يقال مرة، في دولة الاحتلال يهيمن اليمين العنصري على الدولة والخطاب، ويتخطى التمترس والتوسع الاستعماري على المكان والزمان خيال كل "الواقعيين". أما الفصائل الفلسطينية التي علق عليها الفلسطينيون الآمال يوما، "مثالهم الجمعي" فإنها لم تعد قادرة على الحديث مع الناس ومخاطبتهم في ظل الاعتماد المطلق على الخارج، ففي الجسم تنخر منذ أسلو ثلاث حروب وانتفاضتين، وفي النفس سؤال عن حالة العجز التي لا يكسرها إلا أجساد أفراد يستخدمونها كسلاح أخير"الموت" أو "الكرامة". يواجه الفلسطينيون مواطني دولة الاحتلال أنواعا كثيرة من الابتزاز والعنف الرمزي والمادي، وبالرغم من كل الامتيازات مقارنة بالفلسطيني 1967، حيث تقسم إسرائيل المكان والزمان والشخص، فهم يبقون أقلية في دولة دينية- قومية، تطالب بدولة يهودية مع اقتراب المئوية الأولى لوعد بلفور.
لكن هذا ليس كل المشهد على الأرض، أيضا يعيش الفلسطيني في التجمعات المدنية والريفية واقعا اجتماعيا يصل أحيانا لاحتكاك في حده الأدنى مع الاحتلال وانخراط اجتماعي نشط في الحياة المعاصرة، ويبقى "الصمود" إذا والذي يمكن أن ينظر له على أنه الآليات النفسية والاجتماعية للتكيّف والدفاع في واقع الاحتلال مشهد معقد يتراوح ما بين" الإنكار للاحتلال" و " عقلنة الاحتلال"، " ثقفنة الاحتلال"، " طقعنة الاحتلال"، " مواجهة الاحتلال"، الخ ... وأي يكن عدد تلك الآليات الدفاعية ، فإن الأهم هو أن الفلسطينيين يبقون شعب كباقي شعوب الأرض" يحبون الحياة إذا ما ستطاعوا إليها سبيلا". أمام حب الحياة يقف الوحش الآخر، وحش النيوليبرالية، حيث التنمية الدولية والعولمة تواجه أقسى الأسئلة. وقد انخرط المجتمع الفلسطيني في العولمة والتنمية في ظل الاحتلال، فكان مشهد ما بعد أوسلو هو الذي يحكم الفرد الفلسطيني، فبقاء الاحتلال مع تطوير وتعقيد أشكال التبعية، والتغيير الاجتماعي والاقتصادي، في ظل ثقافة الانخراط في عالم التكنولوجيا وعالم الاستهلاك، التي تجتاح بشكل عامودي المجتمع الفلسطيني، تخلق" مُثل اجتماعية" لطبقة وسطى معولمة، ويصاب في اعتقادي المتضامنين الأجانب بمتلازمة صعوبة التوفيق ما بين الألم الناجم عن الاحتلال و مظاهر الحداثة والعمران في التجمعات الحضرية الفلسطينية.
هذه الورقة مشاركة من ممارس "للعلاج النفسي التحليلي" في مؤسسة غير أهلية، رام الله، محاولة شفافة للتساؤل والاشتباك مع واقع العلاج النفسي في فلسطين من جهة أساطيره حول مصادره النظرية والتأهيلية والإشرافية. وبعيدا عن أي حجج لها معان عامة، فإن هذه الورقة تحاول أن تمسك العصا من النصف، تارة في عرض عينة من المشاكل التي يتوجه بها الأشخاص لطلب خدمات العلاج النفسي، وتارة إطلالة على السياق العام الذي تتم فيه عملية العلاج. من أجل المساهمة في دفع الأسئلة التي يجب أن تشغل المهتمين بتطوير مهنة وأدبيات وأخلاقيات العلاج النفسي في فلسطين وربما لدى الشعوب الناطقة باللغة العربية. ولا تهدف هذه الورقة لنقد الممارسة العيادية النفسية الفلسطينية في ظل السياق الذي يحكمها وأقصد بداية الوضع الجيوسياسي المعقد، ولكن أيضا العولمة والحداثة تجتاح الكرة الأرضية، ففي النهاية الاضطرابات والمشاكل والآلام النفسية ليست حكراً على شعب دون غيره، والقلق على سبيل المثال واحد من أهم المشاعر الإنسانية العالمية، وليست الاضطرابات والآلالم والمشاكل النفسية التي نواجهها في العيادة إلا تجليات الأثر الناجم عن البنى والعلاقات الاجتماعية والبيئية التي تحكم الخبرة الفردية والجماعية البشرية، ونادرا ما يجلس أمامنا أو في غرفة العلاج فرد أو أسرة بدون ألم ناجم عن صدمة أو عن خلل في نظام أوبنية العائلة أو موروثها النفسي-الاجتماعي، أو البيئة الاجتماعية أو عن حساسية فردية وبناء نفسي ناجم عن طريقة "تعامل- رعاية" ذات شكل معين، أو رواية فردية أو عائلية مدمجة بالأسئلة حول الأصول والحب والعلاقات والألم والمشاعر المختلفة من العجز والضعف والغضب والحزن والفقدان والأسرار العائلية والأنا المتخيلة.
ومن المهم أن ألفت الانتباه هنا وقبل أي تقدم في موضعنا هذا، إلى أن المرء يمكن أن يقسم متلقي خدمات "العلاج النفسي" إلى نوعين، الأشخاص الذين يتوجهون لطلب هذه الخدمات من المرافق التي توفرها، وأولئك الذين تصلهم لمنازلهم ومدارسهم. وهذا من وجهة نظري يشكل تقسيما مهم لأنه يحدد واحدا من أهم أشكال الخدمات النفسية أو الخدمات النفسية- الاجتماعية في فلسطين.كما أنه يشكل تقسيما أساسيا في حقل الخدمات النفسية الفلسطينية.إن المنظمات المحلية والعالمية وفرت وبشكل غزير ومنذ العام 2000 عدداً هائلاً من الخدمات والفعاليات النفسية- الاجتماعية في المناطق كافة، خصوصا تلك التي تضررت من الآثار المباشرة أو غير المباشرة للأعمال العسكرية الإسرائيلية (Woodward، 2014)، وأضحى الخطاب المتعلق بالصحة النفسية واحداً من أهم الخطابات التي دعمتها ورعتها المنظمات الدولية العاملة في فلسطين بالتعاون من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المحلية. وظهرت للنور خطط استراتيجية وطنية متعلقة بخدمات الصحة النفسية ودمجها في مرافق الصحة الأولية، ومولت بملايين الدولارات مشاريع ومؤسسات عاملة في مجال الصحة النفسية- الاجتماعية. إن مشهد التقدم في توسيع خدمات الصحة النفسية في الأراضي المحتلة لا يستهان به البتة، ويعلم المراقبون عن قرب بأن وزارة الصحة الفلسطينية تحاول جاهدة توفير خدمات صحة نفسية طبية وعلاجية بالرغم من الصعوبات الجمة والميزانيات الشحيحة، فرأينا عددا من المركز المتخصصة في تقديم خدمات الطب والعلاج النفسي بالإضافة إلى المشافي النفسية الحكومية التي ورثتها الوزارة من الاحتلال الإسرائيلي (MOH, 2014)كما أن الوزارة تعاونت بشكل كبير في تأهيل عدد من الأطباء/الطبيات الشباب/ات في مجال الطب النفسي لكي يرفدوا حقل الطب النفسي المحدود أصلا، في المقابل تواجد على الأرض عدد قليل من المؤسسات غيرالحكومية التي قدمت خدمات علاج وإرشاد نفسي بعضها قبل عقد من قدوم السلطة كما هو حال المركز الفلسطيني للإرشاد المؤسسات التي امتهن فيها العلاج النفسي، وهي مؤسسات وفرت خدمات إرشاد وعلاج نفسي فردي وأسري في الأساس للفئة التي تحضر لطلب الخدمات من مرافق ذات اختصاص، لكن بعضها طور أيضا برامج تدخلات نفسية اجتماعية شملت فعاليات عامة وتدخلات في وقت الطوارئ والأزمات.
السياق المعولم.
وبعبارات أخرى وربما بشكل استباقي، حظيت الصدمة الناجمة عن العنف السياسي بدور البطولة في حين تم إسدال الستار على الصدمة الناجمة عن العنف البيئي بالرغم من أنها أعم وأشمل من حيث مباشرتها من الأولى، وفي الوقت الذي بقي السياق الجيوسياسي للصدمة الأولى في حالة من الاستاتكوا، فإن السياق الاجتماعي الاقتصادي الحداثي المعولم للصدمة الثانية تغير بشكل سريع منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين. وليس من المبالغة في شيء أنه في الوقت الذي لم تنتهِ البنى الاستعمارية أو لم يكن تغيرها إلا شكليا، إلا أن البنى الاجتماعية- الثقافية- الاقتصادية للشعب للفلسطيني القابع تحت الاحتلال قد تغيرت بشكل أكبر (هلال، 2006). ولا يمكن في الأساس وبأي حال من الأحوال إغفال الحداثة التي مثلها التعليم الأساسي والثانوي والجامعي في المجتمع الفلسطيني قبيل أوسلو (ليزا تراكي وريتا جقمان، 2008)، لكن وصول المرأة للتعليم الجامعي وهيمنة العامل الأنثوي عليها والخروج لسوق العمل بشكل أكبر في العقدين الأخيرين، جعل المجتمع الأبوي التقليدي الفلسطيني على المحك تماما، وأحدث في بنية العائلة والأسرة تغيّرا جذريا. وترافق ذلك أيضا مع تضخم عدد المؤسسات في القطاعات كافة، والتي احتاجت المزيد من الأيدي العاملة، ووفرت أنواعا جديدة من الوظائف على رأسها الوظائف المكتبية والخدماتية والمالية والأمنية (ساري حنفي وليندا طبر ، 2006). وعلى أرض الواقع خلق تقسيم آخر في الجسم الفلسطيني، ما بين الفلسطينيين المحتكين والفلسطينيين شبه المحتكين، أما المحتكون فهم من يعانون بشكل يومي من ممارسات الاحتلال والمستوطنين بشكل مادي ومعنوي، وأما شبه المحتكين فإنهم يعيشون الاحتلال المادي في الأغلب على المعابر وفي السفر ما بين المدن أو إصدار التصاريح، أما المعنوي فانه يسترب إلى حياتهم اليومية من خلال الأخبار واتفاقيات باريس الاقتصادية. لقد وصل التفت في المجتمع الفلسطيني إلى حد المقاومة الفردية التي نعايشها هذه الأيام، والتي يتفاعل معها أغلب الفلسطينيين من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي.
تلعب العمولة جزءاً رئيسا من المشهد ولكن ليس من المؤكد أن هذا لا يقابله نوعا من التفتت في المركبات الحداثية أو مضمانيها، فالسؤال الأساسي أمام هذا الوضع، هل تترافق وتتقابل الحاجة للروسخ والنمو والتطور من أجل اعتلاء أسس الحداثة مع ما تفعله العوامل التي تحاصر بها العولمة ومظاهرها المجتمعات -الكثير منها استهلاكية سريعة- ، لم يعد الاستهلاك يقتصر على البضائع التي وصفها ذات مرة كارل ماركس في رأس المال ولا حتى النقود بقيمتها التبادلية كما عرفها، فالعولمة تدغدغ المتخيلات الفردية والجمعية (تراكي، 2014)، ابتداءً من القروض التي تسمح لنا أن نمتلك أشياء نحتاج لعقدين من الزمن لكي ندفع ثمنها، وانتهاء لفضاءات مفتوحة متروكة لاستخدام الأفراد كما يشاءون، فاليبرالية كما الرأسمالية تؤمن بالفرد المستقل، وليس مداعبة أننا أصبحنا في زمن ال “I” فون،“I” باد، “I”كلاود، تلفوني "أنا"، لوحي "أنا"، غيمتي "أنا". لكن مهلا، ذات مرة كان بإمكاننا أن نضع ثقتنا بشكل أكبر في استنتاجات حول الفروق البنوية التي تقف عائقا أمام الفرد في المجتمع الفلسطيني العربي للتفرد، وفي إحضار فرديته للعيادة النفسية، لكن زمن ال " I " يجبرنا اليوم على ضرورة التفرس في التأثيرات المباشرة للعولمة على الفرد والبناء، ففي الوقت الذي توفر النيوليبرالية للأفراد مساحات متخيلة وافتراضية غير أنها تضعهم تحت العين المباشرة للإشراف والمراقبة،وبالرغم من الشبكات الاجتماعية العالمية والعابرة للقارات والمحيطات تشكلت، غير أن زمن العولمة يتقن التفتيت والضبابية، زمن ذهاني بامتياز، تهيمن فيه المتخيلات المتضاربة والمتنوعة والمتباينة والمتشابكة، فالبرغم من هيمنة الخطابات الجمعية والاستقطابات الحدية، غير أن المرء يكاد يفتن أمام الإجماع على سياسات السوق الحر العالمي في الأغلب، لكن العارفين بشؤون ودراسة التنمية يعرفون شرطها الأساسي الذي هو الدولة القومية، وويل للشعوب التي تجتاحها العولمة ولا تملك دولة قومية مستقلة (Escobar، 1992؛ Portes، 1997؛ Pieterse، 2000). ويعرف السوسيولوجون بشكل واضح كيف أن هذه الدولة القومية تجابه التهميش في زمن النيوليبرالية.وقد كتب الكثير عن إشكاليات التنمية العالمية، وأصبح لدينا مدارس ما بعد تنموية تنشر الشكوك حول جدوى ما يطلق عليه المجتمع الدولي التنمية، ومع نهاية القرن الأول على المؤسسات الدولية، تطرح الكثير من الأسئلة حول فعاليتها وجدوتها ومظاهر عجزها، ويقف البنك الدولي على رأس تلك المؤسسات التي تحظى بنصيب الأسد في الدراسات النقدية التنموية. (Nustad، 2001؛ Ziai، 2004؛ Prempeh، 2004؛ Rist، 2007)، يسخر دو فريز De Vries (2007) من رغبة التنمية العالمية التي تنتهي بلا تنمية (Vries، 2007). وفي المجمل فإن النظرة على الواقع العيادي أيضا من زاوية التنمية والعولمة أمر مهم لفهم المهنة الصاعدة في ضوء الخطط التنموية العالمية، بالرغم من كل النقد لا تزال ماكنة التنمية والسوق الحر النيوليبرالي أسياد المشهد الاقتصادي- الاجتماعي العالمي. حيث إن الاختباء وراء الإصبع حول واقع التبيعة النيبولبيرالية أمر لم يعد ممكنا، وحسم الأمر في مشهد لا يمكن فهمه بطريقة أبسط من ثنائية الأسياد- العبيد.
الحداثة والمجتمع الفلسطيني.
لعب التعليم دورا أساسيا في عملية تحديث الواقع الاجتماعي الفلسطيني، وبالرغم من الصعوبات الأساسية التي جابهت الفلسطينيين، أصبح المتخيل الاجتماعي العلمي طموح الطبقة الفقيرة والوسطى على حد سواء، ومع نهاية القرن العشرين، كانت المؤسسات التعليمية المتنوعة تنتشر في الأراضي الفلسطينية بحد معقول، فالجامعات والمعاهد وفرت مقاعد دراسية معقولة للراغبين في التعليم الجامعي المحلي، كانت أموال الدعم الخليجي والعربي والدولي توفر دعما سخيا في حينه، بحث الراغبون عن الطب والتخصصات الهندسية وحتى الحقوق عن مقاعد دراسة في الخارج، ووفرت الجامعات المحلية تخصصات الهندسة والعلوم والتمريض والآداب والتجارة ضمن الإمكانيات البشرية والمادية المتوفرة. ولا يمكن للمرء أن ينكر أن فلسطين 2016 ليست فلسطين في الحرب العالمية الأولى، فإن النقلة النوعية التي أحدثها المجتمع الفلسطيني في مجال التعليم تحت الاحتلال القائم حتى لحظة كتابة هذه السطور، هي التغيّر الاجتماعي الأهم، وتستقر فلسطين مع انتصاف العقد الثاني من القرن الحالي بجيل إلكتروني بالرغم من عدم توفر شروط أساسية للتنمية والتحديث، فإن مساهمة الطموحات العائلية والفردية في هذا التغيير لايمكن أن تكون خافية على أحد، حتى العائلات الفقيرة سعت من أجل تعليم أبنائها، واستفادت أحيانا من منح الطلاب المتفوقين. و ما يهمنا هنا هو مصير العلوم النفسية في هذه الثورة الاجتماعية الثقافية، إذا ما جاز لنا التعبير، فليس المهندسون والأطباء والمحامون والصيادلة والأساتذة الجامعيون والحاصلون على الدرجات الجامعية بقلة ولا بجُدُد في مجتمعنا مقارنة بالأخصائيين النفسيين، ومن الواضح أن هذه المهنة لم تظهر في الخارطة الاجتماعية الفلسطينية إلا في بداية العقد الثامن من القرن المنصرم.
على المقلب الآخر، فإن الحياة الاقتصادية الفلسطينية بقيت ولازالت معتمدة تماماً على الاحتلال وعلى الخارج، وهذا الأمر يطال القطاعات والشرائح والطبقات كافة بلا استثناء، وهو يقف عائقا أمام الطموحات الاجتماعية الفلسطينية في أحداث تغيّرات حقيقية مادية مستدامة وثابتة ، فبالرغم من كل مظاهر الحداثة التي تلف رام الله والبيرة ومحيطهما، غير أن هذه المظاهر يدعي المراقبون أنها فقاعة، ولا يمكننا البحث طويلا لكي نؤكد بأنها تعاني من عدم توفر المصادر الحقيقة سواء على صعيد البنى التحتية أم على صعيد الاستقرار في المستقبل (بارت، 2013). ولكن الواقع يبقى على الأرض ممارسة للحياة اليومية في المجال الاجتماعي والبيئة. في كل الأحوال يثير أشخاص مثل: اولريش بيك مخاوف بخصوص مجتمعات المخاطرة (Beck, 1986)، وهذا يعني بأن المجتمع الفلسطيني يعيش أكثر من مخاطرة في عالم من المخاطر. قد يبدو هذا التشبيه متشائما، لكنه يوفر لنا أرضية لتصور حدا للحياة الاجتماعية الفلسطينية، ناهيكم عن التفتيت الجغرافي، والشعور بالعجز. ومع ذلك فإن التمدد الحضري يتسابق مع الزمن، لا من أجل غاية احتواء الأجيال المتلاحقة من الفلسطينيين الذين تمثل القنبلة الديموغرافية، إحدى قنابلهم المرهوبة، وإن الآلة العمرانية لا تكل ولا تمل للحد الذي يطالب ديفيد هارفي الانتباه للطبيعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة خوفا من أن تهتكها غابات الأسمنت والحجارة البيضاء في محاضرة له في جامعة بيرزيت قبل أشهر من الآن . أن الأزمات المرورية الصباحية في مدينة رام الله والبيرة تشهد على أشكال المتخيل الاجتماعي الجديد التي تمثلها المركبات الحديثة التي تحتل الشوارع، وتبدو بعض السيارات الألمانية والفرنسية وأحيانا اليابانية القديمة والنادرة غريبة تماما عن هذا المشهد. نحن لم نعد كما كنا قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن بطريقة من الطرق، وبالرغم من أن الاحتلال يبقى قدرنا وشماعتنا الأولى، فإن الحداثة والعولمة تستوقفنا بشكل أكبر، وليس مجازفة القول إننا مجتمع واقع تحت مطرقة العولمة وسنديان الاحتلال. ولكننا أيضا مجتمع يريد ويمارس العولمة التي تجتاح كل غرفة نوم، ونواجه واقعا يوميا يذكرنا بعجزنا الذي لم يفتأ يلازمنا منذ كان يوم استقلال إسرائيل واعتماديتنا.
إن واحدا ربما من أهم مظاهر التغيّر الاجتماعي الذي لحق الانتفاضة الثانية هو انصراف الجيل الجديد عن الأحزاب السياسية والأمثلة الاجتماعية، وبالرغم من بروز ما يمكن أن نسميه بدليل الواقع ال iresistance ( الإضراب عن الطعام الفردي، والعمليات الفردية ) الذي يمثل من وجهة نظري ثورة على البنى السياسية والاجتماعية لحد بعيد، فإن جيل الإنترنت يعرف عن العالم والعلوم معرفة عامة أو خاصة أكثر ربما من أي جيل آخر،وهو لا يختار طرق يوحدها أيّ خطاب عام في المقاومة أو في التحديث، ولكن جيل الiage عابر بطبيعته للأجيال، لكنه الأكثر هيمنة على الأجيال الشابة، فإن استشارات تتعلق بأطفال يقضون ساعات طويلة على الألواح الإلكترونية لم تعد أمرا مستغربا أو قليل الحدوث، أن الهواتف الذكية أصبحت سيدة الموقف. مقابل كل ما قلناه فإن الفلسفة التربوية لازالت تعاني من ثقافة التلقين، كما أن المناهج تثير الاستغراب لا سيما في المرحلة الأساسية الأولى، وتجد الكثير من الأسر التي تولي التعليم قيمة عالية مشقة بالغة في مساعدة أطفالهم في المرحلة التأسيسة، حيث يواجه الأطفال من وجهة نظري طلب يفوق قدرتهم على التحصيل والتعلم، فالمناهج لا تبدو تماما متناسبة وحاجات الأطفال لتعليم إنساني، ناهيك عن أن المدارس تواجه صعوبات أكيدة في دمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة إلا في نماذج قليلة، وبالرغم من أن وزارة التربية تمارس سياسية الدمج والتحمل العالي، غير أن المدارس لا تفلح في الكثير من الأحيان في التعاطي مع الحاجات الفردية لدى الأطفال، فالأطفال أيضا في هذا الجيل يواجهون عالما يختلف تماماً عن العالم الذي واجهه الأطفال الفلسطينيون سابقا. وإن واحدا من مظاهر الحداثة هو إرسال الأطفال إلى المدارس الخاصة، تبقى اللغة الإنجليزية ( لغة العولمة) ومن أهم الأسباب التي تدفع العائلات المنتمية للطبقى الوسطى لإرسال أطفالها للمدارس الخاصة القديمة والحديثة، ومقابل كل هذا نجابه جيل عازف عن القراءة الجدية.
إن الانتماء لمتخيل الطبقة الوسطى ليس حكرا على الطبقات ذات الدخل المتوسط، أن تعريف الطبقى الوسطى هو قضية شائكة (هلال، 2006)، ولكن المهم أن هؤلاء الأطفال وعائلتهم يصبحون لحد كبير عبيدا بالمعنى الهيجلي لفعل أمر ومثال اجتماعي، وإن هذا الأمر يمثل واحدا من مظاهر العبء التي تضعها الحداثة والرغبة فيها على كاهل الأطفال والأمهات، وتجد السيدة الموظفة من الطبقى الوسطى نفسها مع ثلاث وظائف كاملة في الأغلب، ما بين العمل في المؤسسات، والقيام بالمهام المنزلية، وتدريس الأطفال، الذين بالكاد تتوفر لهم أية مساحات حقيقية للعب في جو البنايات المدنيّة. إن نمط حياة العائلة الموظفة والعاملة السائدة في مدينة رام الله، يؤثر على جميع الأفراد. إن ساعات العمل الطويلة ومتطلبات التجهيز لليوم التالي لا تترك لهذه العائلات أيّ أوقات نوعية. فالكثير من الأطفال الذكور الذين يعانون من غياب الأب وأحيانا إنشغال الأم يترددون على عيادتنا المختلفة، وليس أقل منهم السيدات اللواتي يطلبن العون في المشاكل النفسية والاجتماعية، فجزء كبير منها من علاقاتي، لكن الاضطرابات الشخصية والمزاجية والقلق ليست أقل حضورا في هذه التجربة.
إن جزءاً من تجليات التغيرات الاجتماعية التي حدثت في البناء الاجتماعي تتحدث معنا في العيادة النفسية، تحت أقدام الأب النابليوني الواهم، تتسل الأسئلة المتعلقة بالمرأة وضائقتها الاجتماعية والنفسية والعائلية والعاطفية والجنسية، وحيث نقول المرأة نقول الطفل والعائلة، وليس مبالغة أن مهنة جالب الخبر تصبح أقل المهن قساواة. وأمام الشاشات والمسلسلات التركية، يترك الجميع أمام أسئلة محيرة، لا بخصوص الدراما العربية ولكن أيضا بخصوص الحياة الاجتماعية، وفي الوقت الذي لعب فيه الهم العام محددا أو مقننا لنقل المظاهر الحداثية وموائمتها مع الحاجة الاجتماعية في زمن الانتفاضة الأولى، فإن التلفاز والهواتف الذكية تفتح باباً واسعاً أمام الكثير من المعرفة وتروي عطش الفضول، ولكنها في المقابل تخلق أشكال وبنى جديدة من الاستهلاك المادي والمعنوي والرمزي، وتصبح هذه الفتيشات الحداثية ضيف ومعلم وفرد في العائلة. فإن أهم مظاهر الاستهلاك المعولم هو الاستهلاك الثقافي، ويصبح التعليم في هذا الجو جزءاً من مشهد كبير يتصارع على جذب العدد الأكبر من الراغبين في الاستهلاك أو التملك الثقافي، وليس بالضرورة من خلال القراءة.
ويخلق هذا الوضع صراعاً ما بين متطلبات التحديث والبنى الاجتماعية التقليدية، فعلى سبيل المثال يبقى الزواج المبكر يمثل ظاهرة مهمة، ويمكن أن يمثل الزواج المبكر مركزا لسؤال وإشكاليات الألم النفسي في زمن العولمة، وأن يجمع أقطاب هذا التناقض والصراع البنيوي، فإن الطفولة ( الاعتمادية) في زمن الحداثة والعولمة خصوصا في البلدان غير الصناعية آخذة في التمدد بالرغم من الاتجاه العكسي لسن المراهقة الأخذ في الانحدار، حيث إن مفهوم الزواج المبكر هو أيضا متغير مع الزمن، فالانتقال لمسؤوليات البلوغ يبدو أمرا شاقا وطويلا على طفل الكائن البشري مقارنة بأقرانه من الحيوانات. أن ظاهرة الزواج المبكر لا يمكن تفسيرها فقط من ناحية اقتصادية فهذا منافٍ للواقع، وإن الزواج المبكر متعلق بثقافة المجتمع الفلسطيني، حيث لا تتحمل العائلات مسؤوليات هذا الزواج بشكل مباشر في الأغلب. وإن القيود الاجتماعية التي تفرض على الإناث بالرغم من الحياة المدنية والتحديث هي أيضا واحدة من الأسباب الرئيسة لهذا الزواج يقول المثل" البنت يا قبرها يا جبرها"، نلاحظ أن القبر يسبق الجبر، فالقبر للمكسور أو السيء وهو الكبت والإخفاء، والجبر للمكسور دواء. فإن البحث عن زواج هو ضائقة عالمية تواجه المرأة التي تشتهي حيث تحب، والتي تبحث عن الاستقرار والتأسيس (Friedan, 1963). أن ما يهمني في الزواج المبكر هو صدمته الجنسية والنفسية التي تلاقي مصائر مختلفة، أهمها الدخول المبكر للفتيات لعالم الجنسانية ووالمسؤوليات الزوجية،فإن السؤال الذي يجب أن يشغل الباحث النفسي والاجتماعي والتربوي، هو كيف يشكل هذا الزواج العائلة والفرد الفلسطيني؟ وأيّ أسئلة يضعها أمام الطفلة المتزوجة عند وصول سن البلوغ مع طفل يبلغ من العمر 8 سنوات في بعض الأحيان، مقابل الزاوج المبكر تبقى العنوسة على الحد الآخر من المشهد تعذب النساء اللواتي " فاتهن القطار"، ويحتار الشباب في اختيار الفتاة المناسبة للاقتران بها، ويصارع من أجل البقاء معها في عالم لم يعد يمارس ذات الرقابة الاجتماعية القديمة.ويضع الجميع أمام نوع جديد من العلاقات الاجتماعية الواقعية والمتخيلة.
الأنا والعيادة .
سيدة أربعينية تتألم بسبب عدم قدرتها على ترك زوجها، الذي أجبرت على زواجهما في سن الخامسة عشر، لم يستطع الزوج الشاب من أن يتعامل مع رفضها لعلاقة جنسية إلا باغتصابها في الأسابيع اللاحقة بعد أن شعر منها الرفض، حضرت للعلاج بسبب صداع لم يفلح الأطباء في التعامل معه، ليست هذه حالة فريدة. شابة جميلة ومتعلمة ومن عائلة ميسورة تواجه مشكلة حقيقة في الإبقاء على ما تريد بسبب اعتماديتها العاطفية العالية، فقد حضرت بسبب نوبات هلع، وبالرغم من أن العلاج قد ساعدها سريعا في البداية، غير أنها عادت بعد سنوات إلى الأعراض نفسها، بعد أن علقت بقصة حب مع رجل متزوج وبدأت تواجه سؤال الزواج. وأخرى تركها فقدان الأب في سن مبكرة وهيمنة أحد الأخوة والطلاق من زاوجها الصعب بائعة هوى مجانية مع قصص حب لا تستمر أكثر من أسبوعين. رابعة أجبرها تخلي الأب عنها وعن أخواتها وانشغال والدتها في إعالة الأفواه الجائعة ، للبحث عن زوج في سن مبكرة من أجل إحضار رجل للعائلة، لكنه ما لبث أن غاب في غياهب السجن مع حكم طويل لتعود مرة أخرى للمربع الأول مع أطفال، بدون أن تكون قادرة على ترك الزوج "البطل"، ويبدو أن الرجال الآخرين الذين حظيت بهم الأخوات الأخريات قد وجدوا غياب الرجال في العائلة مدعاة للتحرش والاعتداء الجنسي على السيدات والأطفال، تحاكي هذه العينة الصغيرة، من القضايا التي تتحدث معنا في غرفة العلاج جزءاً من المشهد الأوسع للتجربة العيادية، ليست "اضطرابات الشخصية" في مرات كثيرة إلا ملازمة أو قاعدية في بناء الذات المتكلمة التي تتحدث معنا في غرفة العلاج، تلك الذات التي تدخل العلاقة العلاجية و تستقر فيها من خلال تحويلات قوية وصاخبة في بعض الأحيان، حيث نبقى مع كلمات ،"أصوات" acting out، وأوهام وأحلام، لا يمكن قراءتها أن لم نكن نؤمن باللاوعي، يبقى المحكي في مركز كل هذا النوع من الاتصال البشري ما بين الُمعالِج والمعالَج، وهو المادة والتقنية الوحيدة من خلال تجربة الاستماع والتساؤل والتفسير والقطع على المحكي نتعلم شيئا عن الذات التي تريد أن تتكلم معنا مع تحويل أساسي على ذاتنا العارفة، إنها أخطر تجربة على الإطلاق إذا ما علمنا بأننا كذات ناطقة منقسمين على ذاتنا التي تماهينا معها و اغتربنا عنها منذ رأينها في المرة الأولى في المرأة بوجود الآخر " الأم أو الأب أو أحد أفراد الأسرة"، أن "الأنا" من هذا المنظور هي متخيلة، وجسدية ومكونة من التماهيات النرجسية الثانوية المتتالية، فإنها على رأي سيجموند فرويد wo Es war soll Ich werden ، (Freud, 2013) التي يمكن ترجمتها بالعربية " حيث يكون الهو يجب أن تصبح الأنا"، أليس هذا الأمر قاسيا على أسماع أصحاب نظرية تحليل الأنا، لأن ما نراه في العيادة يميل أكثر في اتجاه الأنا كما قرأها جاك لكان من فرويد (Lacan, 1978)، أن فرويد يتخلى عن أنا حاكمة ومركزية في مراجعته النظرية الثانية (Freud, 2013)، ويقدم لنا مفهوم الذات اللاكاني ، كائن متكلم مشطور ومنقسم منذ لحظة دخوله في اللغة، حيث أنه بالرغم من استخدامه أنا المتكلم يبقى في حديثه مع الآخر مكان الكلام "المستمع" يكشف عن ذات تتضمن "أنا" واعية و أخرى لاواعية أو بمعنى أدق أن المتحدث هو أجزاء الذات المختلفة في نفس الكلمات (Lacan, 1975))، كل ما نحتاجه هو أن نستمع جيدا للاوعي، وأن نتذكر دائما أننا بالرغم من التحويل علينا كذات عارفة، فأننا في الواقع لا نعرف، وعلينا أن نتعامل مع مقاومتنا للسماع للهو. " من فمك أدينك" " أنا لم أجعلك تقول هذا" ، " كما قلت لي ". وأن نتخلى عن الأسطورة القائلة بأن التحويل معيق للعلاج، أنه حسب جاك لكان أداة التحليل الحية التي تعيد المنسي غير مرموز بالكلام، تحويل على آخر أكبر طلبا للاعتراف بالأنا المتكلمة ورغبتها وحقيقتها، بل أكثر من ذلك فالتحويل كما المقاومة كلها أمور تخص المعالج ورغبته. (Lacan, Le Transfert, 1991)، كل واحد منا لديه "حقيقته" الداخلية التي يريد الاعتراف بها،ولديه سؤال حول ماذا يريد؟
أن هومات من نوع أنا المعالج هي من لديها الأدوات هي هومات تناسب تماما خطاب السيد، ويجب أن لا تجعلنا ننسى بأننا أمام كل طلب للعلاج بالكلام يجب أن نسمح للذات أن تعبر عن تجربتها، وأن نتعامل مع هذا التعبير من موقف" الاعتراف بالألم" والاستعداد للاستماع وبناء معرفة خاصة بكل فرد عن ذاته، وعن رغبته، وعن تكرارته، ومزاجاته وما يثير فيه القلق أمام رغبته (Laurent, 2008). إن التحليل النفسي لم يدّعِ أنه حل لأية مشكلة من المشاكل التي تعامل معها، ولم يعلن عن استتباب أي من المفاهيم التي سلط عليه الضوء، لتبقى العيادة التحليلية مسرح لكل الأسئلة، وبالرغم من كل العبارات الرنانة لما يسمى " الممارسات القائمة على الدلائل"، والتي بدأت الأصوات تعلو في انتقادها، (Burkeman, 2016) تبقى الفرادنية التي تواجه العلاج الفردي هي المتكلمة عن الاغتراب الذي لكل واحد منا عن الموضوع، وعن الآخر، وعن ذاته التي رآها ذات مرة في المرأة فسيطرت صورتها علينا. وعندما يقبل المعالج أن يجلس في المكان الذي يسمع فيه هذه الذات المتكلمة، فأنه حتما لا يستطيع إلا من خلال التحاور مع المتخيل من خلال الوسيط الرمزي "اللغة" وأن يتعامل مع هذه الأنا الجسدية المتخيلة، ولا أداة له في هذا إلا سؤاله وتفسيره وقطعه وشرحه على المتكلم كمثال صوتي للذات المتكلمة من اللاوعي والوعي في آن واحد. ليس فرويد من اكتشف اللاوعي، ولم يقل ابدا إنه يقدم معرفة جاهزة، إنه في كتاباته يحاول أن يتعامل مع الظاهرة على مستوى فردي ولاحقا جمعي، أن أهمية الاختراع الفرويدي هي في أن المحكي هو الأداة الوحيدة التي بالإمكان من خلالها الوصول لهذا اللاوعي (Freud، 2013؛ Lacan، 1978؛ Lacan، 1991؛ Lacan، 1975)، أن مركبات الذات لا تفيدنا إلا في أنها تعطينا نوع من الانطباع عن الصراعات و الألم الذي تسببها خبرة الفرد مع القلق أمام العالم الخارجي، والعالم الداخلي الليبدوا، ومدى شدة الضوابط الاجتماعية والثقافية، والألم في أنها الذات التي تعيش في غربة مطلقة مع الموضوع غير ممكن الإمساك به وغربة عن ذاتها (Elisabeth Roudinsco et Michael Plon , 1997). يبدو هذا كلاما رومانسيا في زمن تكاثرت فيه أنواع العلاج أكثر من مذاهب أي من الديانات، وهل من المجازفة في التساؤل هل بالفعل نريد أن نعرف ذواتنا ورغباتنا ؟ وهل يهتم أحد في هذا الأمر من الأساس؟ فكل واحد فينا على حدة يطلب العون، عندما تصبح الحياة الاجتماعية أو الألم النفسي غير ممكن ومعطل أو عندما يصبح الفرد عاجزا عن الانخراط في الجنون الجماعي اليومي.
يلعب الأطفال دورا مهما في كشف المشاكل النظامية، وهم في مرات كثيرة من يقود الأم أو أحيانا الأم والأب لطلب مساعدة المعالج النفسي، وتلعب المدارس دورا مهما في الكثير من الأحيان في عملية التحويل للعلاج أو الفحص، كما أن التعليم والانتماء إلى ما يسمى الطبقة الوسطى وأخلاقياتها تعود مرة أخرى للظهور في هذا الطلب. وإن مشاكل الوالدين تحل في مرات كثيرة في عدد قليل من الجلسات خصوصا إذا ما كان لدى الوالد/ة قناعة بوجود مشكلة في سلوكهما وتعاملهما مع أطفالهما، أن نمط العائلة التي يظهر بها الطفل العرض كما يحلو للبعض تسميته، "فالأطفال غير موجودين" على رأي وينكوت (Anne Clancier & Jeannine Kalmanovitch, 1999)، هي أنها تعاني من خلل نظامي في الادوار والعلاقات، ليست الامهات بريئات في بعض هذه الاوضاع، وعادة ما يكشف الطفل عرض الوالد أو الوالدة مع معاناة نفسية ترقى لمستوى أن تكون بناءً في الشخصية، والتي تنعكس أساسا على العلاقات، والتي تتضمن دفقات دافعية قد تكون تدميرية في العلاقة مع موضوع الحب. وحتى المشاكل التطورية والعقلية للأطفال تبدو أقل حدة ويمكن السيطرة على آثارها السلبية المنغصة في أنظمة أكثر استقرارا و قدرة على الاتصال.
في العقد الأخير لم تعد الأسئلة المتعلقة بالهوية الجنسية نادرة في العيادة، وهي طلبات متباينة حسب الأفراد وطبيعة الصراع حول الهوية الجنسية، أن أنماط التللذ المختلفة لم تعد تخاف من التحدث للمعالج، كما أن القضايا الحبية والجنسية لم تعد تمنع الذين يمارسون حياة وظيفية معقولة أو ممتازة من التوجه لطلب المساعدة. مرة أخرى ومن أرض العيادة نواجه ذات الأسئلة التي تشغل الأفراد والعائلات في العالم، كل ما نحتاجه هو أن نعطيها وقتها، أن نكون صبورين ومتواضعين وقادرين على بناء علاقة أسسها الممارسة اللغوية المسماة العلاج النفسي، ممارسة تسمح للغة أن تستنفذ كل مكنوناتها ومناورتها، وممارسة تسمح للمعالج أن يتساءل عن الخبرة الفردية لمحدثه، كما يفعل مع مشرفه ومحلله في الطرف الآخر من المعادلة، نعم هذه الممارسة مكلفة و شاقة ولهذا لا عجب أنها لم تعد رائجة في خطاب المؤسسات التي توفر العلاج النفسي ( الشركات التأمينية، وزارات الصحة، والمؤسسات الكبرى)، وهي أصلا لم تولد في أحضان المؤسسات ، لقد ولدت هناك في العيادة الخاصة في أحد شوارع فينا "العصر الفكتوري". إن هذه المقاربة تقودنا للعودة إلى الحقل والسياق اللذين يمارس فيهما هذا الشيء المسمى العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
حقل بلا جسد.
ما هو حقل العلاج النفسي الفلسطيني ؟ وأين حدوده؟ كما هو الحال في الخبرة اليومية الاجتماعية الفلسطينية، فإن التقسيم سيد الموقف، والحديث عن الواقع ضرورة يجب لا أن تستثنيها قضايا الهوية الجمعية للفلسطينيين، فالمعالج النفسي أو الأخصائي النفسي الفلسطيني، لا يمكن أن يفهم إلا من خلال هذا الوقع المقسّم ؛لأنه لا يمكن بالرغم من تعدد العلاقات المتلاحمة ما بين الأخصائي النفسي الفلسطيني من 1948 والأخصائيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، أن ننظر بطريقة ذاتها إلى الاثنين من حيث التأهيل والحقل والجسم المهني الذي ينتمي إليه كل منهما. إن هذا التقسيم في الوقت ذاته يشير إلى واحدة من أهم أشكال العلاقات في الحقل الفلسطيني للعلاج النفسي، وإن اللغة واحدة لكن الهموم والسياقات والخبرة والإنتاج متباينة لحد ما،ويكفي المرء أن يشير إلى وجود دولة قومية أي كان شكلها، يعد الأخصائي النفسي الفلسطيني من الداخل مواطننا من الدرجة الثانية أو الثالثة فيها،فهذا الأخصائي يعاني ما يعانيه عندما يتعلق الأمر بالهوية والمواطنة، لكنه في الوقت ذاته يقترب أو يتواجد في حقل كبير من الأخصائيين النفسيين، وفي تقاطع مع أجسام مهنية ومؤسسات أكاديمية لها تاريخ طويل مقارنة بتاريخنا في خبرة العلاج والانكشاف على نظرياته، وهذا إلى حد ما واقع لا يمكن إنكاره. فعدد ليس بالقليل من هؤلاء الأخصائيين/ات لديهم عيادتهم الخاصة، كما أن الطلب على خدماتهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967، يعطيهم أدوارا تأهيلية وعلاجية ذات امتيازات تضعهم في رأس الحقل العلاجي النفسي المحتل.
في المقابل فإنه بالرغم من الانتشار المتزايد لخدمات ومهن الإرشاد والعلاج النفسي من خلال المؤسسات العامة وغير الحكومية في الأراضي المحتلة بعد العام 1967، فإن هذه المهن تبقى وظائف في الأغلب تحكمها المصادر والموارد المتوفرة سواء البشرية أم المادية،فهذا واقع الانقسام الجغرافي والسياسي الطولي والعرضي بين عامي "1948و "1967"، إن محاولة التشابك تبقى عاجزة عن تطريز جسم مهني غير ممكن في ظل التفتت بين المؤسسات، فالحقل في الطور الجنيني (Giacaman, 2004)، وهو حقل مفتوح على " البحري" لأنه عطش وجائع بدرجة تفوق التصور في ظل عدم وجود أجساد مهنية قادرة على الاتفاق على الاختلاف من أجل خلق تجربة مهنية من الأرض، وفي ظل غياب هذه "القاعدة" الخبراتية النظرية، فإن الأدوات التي تقدمها الأشكال الجديدة والسريعة من التدخلات تبقى الأمل لدى المرشدين/ات المعالجين/ات الذين لا يستطيعون أن يضعوا خبرتهم العملية تحت سؤال النظرية والإشراف (Mansour, 2003)، فالعلاج النفسي كما آمن التحليل النفسي ذات مرة لا يعلم في المؤسسة التعليمية، فالمؤسسة التعليمية لا يمكن أن تقوم بهذا الدور إن هي لم تضمن الممارسة العيادية في تعليمها.
اضطراب المهن النفسية في المؤسسة التعليمية الفلسطينية.
التشخيص فخ، ولكنه فخ ملازم للعلاج النفسي. ذكرت في مقدمتي أهم أداوت التحديث، والتي لعبت فيه المؤسسات التعليمة الجامعية دورا مهما في الحقول الممكنة كافة، إن الأطباء من حيث إن الطب علم الجسد فخريجي كليات الطب المحلية يجدون في طريقهم صعوبات أقل في حقلهم المحلي والإقليمي والعالمي، لكن المرء لا يجانب الصواب أن قال بأن خريجي المهن النفسية، والإرشاد النفسي على الأقل، يجدون صعوبات جمة، يخفف آلامها التدريبات القصيرة والدورات التدريبية، ويعالجها أحيانا المرافقة الإشرافية التي تميل لتقديم نافذة علاجية لهؤلاء "الأصحاء" .تتيح الإشرافات والتدريبات الفرصة لإلقاء الضوء على الأسئلة والتحويلات والمتخيلات والمخاوف التي يجابها الممارسون للمهن النفسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أن أكثر المرشدين/ات إثارة للقلق هم المرشدين/ات" الجيدين" ذلك النوع الذي لا تساؤلات لديه عن خبرته ومعرفته وسلطته، إنه ليس بحاجة للإشراف، فليس لديه أحلام من نوع أحلام حقنة أرما. ليس هذا نوع محلي فحسب أنه نوع يخترق القارات، أن فيه اضطراب بنيوي حقيقي.
لكي نفهم هذا الاضطراب المعرفي البنيوي، يجب أن نسلط الضوء على التخصص الحديث نسبيا في الجامعات الفلسطينية. فقد بدأت بعض الجامعات الفلسطينية بتقديم تخصصات الإرشاد النفسي حول الذاكرة المئوية الأولى"1895" ، لصدور كتاب سيجموند فرويد وجوزيف بروير " studen uber hysteria"، مرت 100 عام في النهر ما بين بروز مهنة العلاج بالكلام عند فرويد وبين دخولها للتخصصات الجامعية المحلية، يتزامن دخول هذه التخصصات للجامعات مع بروز الحاجة لمهنة المرشد النفسي في المؤسسات الحكومية والأهلية، سبقت الدراسات النفسية حول الصحة النفسية في فلسطين، ابتداء من دراسة بناماكي وفريق برنامج غزة للصحة النفسية وآخرين ، في ذلك الوقت بعقد من الزمن وقد لعبت ربما دورا رئيسا في رفع الوعي حول الصدمة "الفلسطينية" وضرورة التدخل على المستوى المحلي والعالمي (عمرو، 2007). لكن المعضلة الأساسية التي يبدوا أنها تواجه هذه البرامج الجامعية المؤهلة لنيل درجة البكالوريوس وحتى الماجستير في المهن النفسية، هي كيف تدخل الطلاب/ات في قرن من النظريات والممارسات والنقاشات والتعديلات والبعديات والعودة للأصول والتفرعات في العلاج بالكلام؟ ويبدو أن الحل الأمثل لمثل هذا معضلة بالنسبة لتلك البرامج المؤهلة، فيكمن في النظر إلى الجسم المعرفي الذي يتوفر في الإنتاج الغربي الحديث للتعامل مع إنتاج الحرفين النفسانيين الذين يتزايد الطلب عليهم من خلال توفير معرفة وأدوات جاهزة مصنفة ونهائية حول الذات والمجموعات والتطور النفسي الاجتماعي، وتبقى مهمة فهم الأصول والجدالات الأساسية والمتراكمة المعرفية النفسية مهمة لاعلاقة لها بالخطاب الجامعي، فأنها عمل الفلاسفة والمحللين النفسيين الذين عفا عليهم الزمن. إن ما أحاول أن ألفت الانتباه إليه هو أنه كما أعتقد لا يمكن إن تتراكم هذه المعرفة بدون العودة للأصول ونبشها ومساءلتها والتمسك بها من أجل التعامل مع الوضع العيادي الذي يتطلب معرفة نظرية وعملية مع الذات الناطقة. إن المعرفة الجاهزة تبقي الأسئلة على الباب، وتبدو الأفكار المنتحلة والتداعيات على أنها أصلية، فيخلق ذلك اغترابا مهنيا أساسيا عن أصول هذا الشيء المسمى العلاج بالكلام.
إن السيارات الحديثة الفارهة تتضمن أجسادها معرفة مكانيكية قديمة تطورت مع الزمن، ولا يمكن بالنظرة ذاتها أن تغفل المعرفة التي أصبح البعض يعتبرها "caduque" ، لكن الممارسة العيادة تعيد إنتاجها بشكل يومي أمام أعيننا. أن مفاهيم التحليل النفسية هي مفاهيم مؤسسة يحق تجاوزها ولكن لا يسمح لنا بان نغفلها في عملية تأهيل المرشدين/ المعالجين بالكلام، ويبقى السؤال هل يمكن علاج هذا الاضطراب البنوي من خلال المؤسسة التعليمة، الإجابة بالطبع لا، لأنه ما لم يتشكل أجساد من أفراد يبحثون عن إجابة لأسئلتهم عن ذواتهم والذات والتي تتحدث إليهم، فإن المؤسسة التعليمية ستبقى في ممارستها التي تنتج في الحقول الأخرى ، لكنها لازالت تعرج في حقل المهن النفسية. يقدم التحليل النفسي ونصوصه الكلاسيكية حلا للجدين/ات الذين تعلموا بأن المساحة التحويلية التي يخلقها هذا اللقاء مع المعالج لا يمكن أن تحدد في الزمن بأدوات لا تعمل في الحالات كلها، أو أنها تلقى جانبا بسبب غياب البعد التطوري المؤسس جيدا والمستمر في مهنة لا ينتهي التأهيل فيها إلا بالتقاعد أو الموت. ففي الوقت الذي يجب أن لا نقفل الباب أمام الموجات المتلاحقة والمتسارعة من الأدوات والطرق العلاجية، غير أنها ستبقى حائمة في الهواء وأحيانا غير ذي فائدة أن لم نعمل على الأداة الأساسية وهي الذات المتكلمة للمعالج/ المرشد. أن معرفة تحليل نفسية نظامية هو ما يحتاجه الراغبون في خوض غمار التجربة العيادية الفردية والجمعية، فبدون معرفة اللاوعي والبنى والأنظمة، يبقى المعالج أداة ميكانيكة تعاني من الاغتراب والاحتراق المهني، و الإنكار والتمركز حول الذات، والعلاجات "المرتكزة على الأدلة"، التي تخدم في الأساس رغبة السيد في العادية والتطبيع والتكيف (Laurent، 2008؛ Burkeman، 2016). أن المسألة أخلاقية بامتياز، فالأفراد يجب أن يكون لهم الحق في الكلام حتى وأن رفضت المؤسسة والخطاب ذلك الحق في الحديث عن "الحقيقة".
خطاب السيد تحكم في المسار وكبت الألم.
مع الوقت لم يعد يثير النقد المتعلق بمدة العلاج أي حرج لدى الذين يتبنون العلاج والإرشاد النفسي المرتكز على مفاهيم التحليل النفسية،فاليوم يضع المتمسكين به أمام أسئلة صعبة (Laurent، 2008؛ Anne Cooke and Jay Watts، 2016)، فالخبرة العيادية أي كانت تقف المرة تلو الأخرى أمام الفرادة التي تعبر فيها الأعراض عن نفسها من خلال التحويل الكلامي وغير الكلامي، ولهذا فالتشخيص الفخ يبقى محاولة نظرية لفهم الحالات، وهي في الممارسة العيادية اللاكانية تبقى نسبية ؛لأن مهنة العلاج يجب أن تأخذ كل شخص على حدة. إن الطلب الذي تقدمه خطابات المؤسسة يتعلق بداية بالتشخيص. فالتشخيص أداة سيادية معرفية بامتياز، خصوصا عندما تبرز للسطح على شكل أدلة تشخيص تساعد في تلخيص الخبرة البشرية الفردية في الألم النفسي تحت عناوين مفصلة ومقسمة بشكل تقني عال، عادة ما يتم إعادة ترتيبها وإنتاجها بين الفينة والأخرى. إنها تقف على النقيض تماما من القدرة على قراءة الأفراد بدون الحكم عليهم وإعطائهم مسميات، وتجعل المهنيين مرتاحي البال، فكل ما لديهم في هذه العالم المفتوح هو دليل تشخيص متفق عليه، يحاولوا بطرق مختلفة أن ينسبوا الأفراد لتقسيماته.
يضع طلب التشخيص العلاج بالكلام في ضائقة حقيقة، فهو يتطلب توفر أدوات قياس لا يمكن أن تكون موضوعية، مسألة الموضوعية في العلوم الإنسانية أصبحت مزحة ثقيلة منذ بداية القرن العشرين، وأداوت قياس قادرة على توفير معرفة مكممة أو تصنيفية تساهم في تسهيل عمليات اتخاذ القرار على المستوى المؤسساتي والطبي والتقسيم الاجتماعي. أما من ناحية الأفراد فإن هذه المعرفة لا قيمة لها؛ لأن ما يحسونه ويخبرونه هو ألم يطلب الشفاء، كما أن علمية الشفاء لا تكون شاملة متوازية في الكثير من المرات، لهذا فإن الشفاء من بعض الأعراض وبقاء بعضها بسبب التعقيدات والخصوصية الفردية والعائلية، لا يجعل من تشخيص الاضطرابات أمرا ذا قيمة حقيقة للأفراد. أما على مستوى المعالجين/ المرشدين، خصوصا الذين يفتقرون للقاعدة البنائية الكافية القادرة على التشغيل والتحاور مع أشكال الكلام والألم الذي يعبر عنه، فإن خطورة هذه المعرفة هي في أنها تثبت الأعراض أو تحدد الانفتاح الكافي على اللاواعي وألم الفرد الذي تحدثه وتطلبه كذات عارفة بل أكثر من ذلك على رفض التحويل الذي يؤسس لعلاقة يمكن من خلالها التحايل على الأعراض والمساعدة على حمل الألم. أن أقل ما يمكن أن يكون أخلاقيا في هذا المجال هو أن نسمح لأنفسنا في الوضع العيادي أن نتعامل مع التشخيص على أنه مسألة نسبية، معرفة عامة يجب أن لا تعمينا عن قراءة أصلية في فرادة الأعراض النفسية التي نواجهها في العيادة النفسية. أما من الناحية الأخرى فإن هذا الخطاب التشخيصي يضع المعالج/ المرشد أمام معضلة المهارة في التشخيص السريع، مهارة تعتمد على معرفة موسوعية مؤمنة في الأدلة التشخيصية، وتكبت الحاجة لوجود علاقة علاجية كافية قادرة على قراءة أكثر قربا من الواقع النفسي للأفراد، ففي الوقت الذي يوفر التشخيص للطبيب النفسي فكرة قد تساعد على وصف الدواء، وهو يتناسب مع الخطاب الطبي، الذي لا يتورع في بعض الحالات من إجراء فحوصات كثيرة، فإن التشخيص في التطبب بالكلام يقف عائقا أمام هذه الممارسة اللغوية التي تعتمد على بناء علاقة "تحالف" كما يحلو للأدبيات أن تطلق عليه، فالتحالف لا يعتمد في كل الأحوال على طرف واحد، ولا يمكن أن نخوض الحرب بتحالف قائم على قاعدة" سوء الفهم". من هنا فإن الخبرة العيادية تتطلب أن نفهم الألم قبل أن نحاول إزاحته أو كبته من أجل العودة السريعة لممارسة الذهان الجماعي.بل أكثر من ذلك فالتحويل من منظور لكاني هو الحب، هو الحب للذي يقول لي من أنا، الأنا لا يمكن أن توجد أن لم يكن ذلك فعل المرأة في الآخر القادر على الاعتراف بها وبألمها، وهنا فقط يمكن أن تتجلى أهمية بناء الأنا، لا من خلال التماهي مع الأنا القوية للمعالج بل من خلال خلق معرفة معقولة عن الأنا المتخيلة والمساهمة في ترميم أو شرخ مركباتها التي تزيد في الاغتراب عن الرغبة وتزيد التلذذ بالألم.
إن تشخيص اضطرابات ما بعد الصدمة شائع الصيت يبدو مثيرا للشفقة أمام الصدمات التي لا بعد لها، الصدمات التي تشتبك مع الواقع العائلي والاجتماعي والسياسي، الصدمات العابرة للأجيال و المستمرة منذ عقود (Rosenthal, 2010)، إن اضطرابات الصدمات تثير الرعب في الحقل النفسي منذ " ما بعد مبدأ اللذة"، لأنها تطرح سؤالا بنائيا مهم، فالصدمة مشكلة للذوات والرغبات اللاواعية، وعابرة للأجيال والثقافات والأفراد، ولكنها لا تظهر في غرفة العلاج الفردي أو الجمعي إلا من حيث هي خبرة فردية، وألم فردي في أحيان كثيرة مشتبك مع تعقيدات أخرى، نوع من التكرار والعودة المستمرة في الكلام والفعل (Knut Rauchfuss & Imihan Zorlu, 2003). أن إزاحة بعض الأعراض ورفع القدرة على العودة للحياة اليومية، ليست كافية عندما يتعلق الأمر بمساعدة الأفراد على حمل الألم من جرح لا يمكن دمله ولكن يجب التحايل للالتفاف عليه، وفي الوقت الذي توفر بعض الأدوات طرقا للتعامل مع الألم النفسي على مستوى الوظائفية، يبقى السؤال إلى أي حد بالإمكان أن تساعد في الأضرار الحاصلة في العلاقة والبناء الشخصي للأفراد، لن نقبل اعتراض الذين لا وقت لديهم لشفاء البنى، كل ما يهم هو الوظيفية من منظورهم ، وهنا يبرز إلى السطح أهم أشكال التنوع والاختلاف في الحقل العلاجي النفسي، وهو السؤال عن أي ألم نتحدث؟ (Jean-Daniel Matet & Gil Caroz & Khalil Sbeit , 2015) هل نتعامل مع الخلل في أداة الأنا كما تصورها أصحاب نظرية الأنا والذي يتم التغلب عليه من خلال مثال يقدمه المعالج، أم الألم البنائي للذات المتكلمة التي تبحث عن تماه نرجسي مع الآخر من أجل إعادة بناء أناها، والتي تتطلب حكمة شديدة في الرد على طلبها والتعامل مع إسقاطاتها ومخاوفها وحدة التحامها بالعلاقة العلاجية.
بعض الأشخاص يكتفون في الخبرة العلاجية بعدد من الجلسات، حيث يأتون بسؤال عن صراعات لحظية، أو لديهم قوة أنا كافية للتعامل مع المشكلة، أو نتيجة أعراض لاحقة على حديث مزعج يقطع الانسجام مع الأنا المتخيلة في علاقتها في العالم الخارجي، أو إلحاح طلباتها الدافعية، أو شدة خضوعها لسوط المثل الاجتماعية. كيف يكون السؤال تكون الإجابة، أب يسأل كيف يتعامل مع مشكلة إدمان ولده على الأجهزة الحديثة، تلقى استشارة لمرة واحدة، وعبر لاحقا عن سعادته لنجاح التدخل من خلاله، كان يكفي أن تقرأ الأعراض في البناء العائلي الذي تحدث عنه الشخص عندما استفهمت عن الممارسات العائلية والعلاقة مع الطفل. لكن آخرين يلتقطون العلاقة العلاجية كملاذ أخير " خزانة" على رأي إحدى السيدات ، أو المنقذ والمستشار والعارف والفاهم وحامل السر والحبيب والأم والأب والكاهن . كثيرة هي التحويلات التي يعيشها الأفراد الذين يتحدثون معنا. والنتيجة الأساسية هي في أن لا ننخدع بأي من هذه العروض السخية للسلطة، حتى وإن لم نرفضها بالعبارات الرنانة، فهم هنا ليعرفوا شيئا نحن لا نملك أدنى فكرة عنه، إلا من خلال كلامهم.
أساطير في الحقل النفسي.
أسطورة العلاج.
إن الادعاء بأن العلاج" الشفاء" بمعناه الأشمل تأتي من خلال التهديف الكلامي على الأعراض في حالات الذهان والذهان الاعتيادي، واضطرابات الشخصية، والعصاب البنيوي الفردي والعائلي، والهوية الجنسية، هو أدعاء يعرف بطلانه كل من يمارس العلاج النفسي، أن نموذج الممارسة الكلامية سواء أكان مع البالغين أم مع الأطفال من خلال العلاج باللعب، يتطلب أن يتحدث الأفراد على سجيتهم، أن يجلبوا ما يريدون " قضاياهم، وأحلامهم،وذكرياتهم، وفهمهم للبناء العائلي، وعلاقاتهم، ومحاولتهم للتصالح مع ذواتهم، تخيلهم عن ذواتهم وعن ذوات الآخرين، ومشاعر الحب والكراهية التي يخبرونها،وتفسيراتهم."
إن تجربتي المتواضعة تؤكد حقيقة أن العلاج هو عرض جانبي للتدخل التحليلي مع الحالات المستعصية على العلاجات الأخرى. فإن الشفاء المطلق لدى بعض الأفراد الذين يعانون من اضطرابات في مستوى بناء الأنا وتماهياتها، هو قضية شائكة ومن غير الممكن المضاربة فيها، إن الشفاء التام هو حلم الخطاب الطبي الذي تكشف لنا الأيام أنه عجز إلا عن إدارة بعض الاضطرابات الجسدية الخطيرة، وهنا لا بد أن لا ننكر للطب وأدواته الدوائية نموذج العلاج الذي تستخدمه في حالة الألم المختلفة، فنزلات البرد تختلف في العلاج عن الاضطربات الجلدية،وعن علاج الأمراض الخبيثة، فما ينفع للتعامل مع الصدمات الحديثة والمنتهية قد لا ينفع في علاج تلك الطويلة والقديمة والمتراكمة.
أسطورة موت الأب.
لن أكرر نفسي هنا، ولكن أسطورة أخرى تجعل فرويد ضحية لأسطورته "موت الأب"، وهي أسطورة عالمية آخذة في التمدد، فتحت طبقات من الجدالات والتساؤلات التي فتحها التحليل النفسي، تضاف إليها طبقات من المسميات الجديدة لمفاهيم قديمة، تخلق طبقة عازلة عن المنبع الأساسي لكل الممارسة العلاجية المعاصرة، ويبقى الحديث عن التحليل النفسي في هذا الجو نوعا من النكوص، ولكن في سياق يفتقر للجدال والتبادل والأجسام المهنية فإن العودة للأصول وإعادة إحياء نصوص المؤسسة يبدو الطريقة الوحيدة أمامنا من أجل أحياء أصول العلاج النفسي. قد يغرينا التعدد والتنوع والحداثة في الأدوات والمناهج المتوفرة في سوق خطابات شركات التأمين، والسياسات النيوليبرالية، غير أن الطريق الوحيد الممكن لبناء نموذج خاص وفعال وممتد طوليا( عاموديا) لا يتم إلا من خلال قراءة طولية للتراث التحليلي والإنساني والسلوكي ، وأنا لا أشتكي هنا من اقتصار الغياب على التحليل ولكن على كل الكلاسيكات وسياقات المدارس والمناهج الأخرى. من مخاطر هذه الأسطورة هو إغلاق الباب أمام تجربة تحليل نفسية محلية، فممارسة التحليل النفسية فاعلة ودينامية " لم يعف عليها الزمن" كما يعتقد الذين لم تناسب فردانيتهم. يضع التحليل النفسي شرطا أساسيا للعبور أو الجلوس في مكان المعالج، يتجلى في العلاج الذاتي، والتحليل- الإشرافي، والقراءة وإعادة القراءة، تشكل هذه المتطلبات عوائق رئيسة تجعل من جريمة قتل الأب أو الأوديب النفسي في الحقل المحلي نمطا سائدا.
أسطورة الفروق ما بين الثقافية.
لا يعني وجود فروق ما بين ثقافية غياب الذات المتكلمة أو تآكل للممارسة الكلامية فاللغة ظاهرة عالمية، ينجي ادوارد سعيد فرويد من الخطاب الاستشراقي، ويعرف القارئ للنصوص الفرويدية، إن فرويد بعد المراجعة الثانية لنظريته حول الوعي 1920، جنح بشكل كبير لتقديم أعمال تميل للسوسيولوجيا والانثربولوجيا العابرة للثقافات، إن الأداة التحليلية عند فرويد ليست مقتصرة على الذات الأوروبية المركزية، وهذا ما نجده بوضوح في الزلات والكلمات، والأحلام التي تحضر في الجلسات العلاجية. ولكن ربما يجب أن لا ننسى في مناسبة الحديث عن هذه الفروق عن أن بروز وترسيخ متخيلات وتمثلات لطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني يجعل من التحليل واحدا من العلاجات القادرة على التعامل مع التغيرات الجديدة في عالم العولمة العابرة للثقافات والقارات.
أسطورة المؤسسة.
يتطلب إلقاء الضوء على أسطورة المؤسسة، أن نقف طويلا عند تجربة بناء وطبيعة المؤسسة المحلية، فمن ناحية الأولى فإن المؤسسات التي تقدم خدمات العلاج النفسي في بعض الدول القومية، تحظى بميزانيات قد تحاصرها الخطابات الحديثة، لكن لا تعاني من أزمة أو معضلات بقاء كما هو حال المؤسسات القائمة في المجتمع الفلسطيني والتي تعتمد بشكل كامل على مصادر اقتصادية خارجية مرهونة ومشروطة ابتداء من مؤسسة السلطة وانتهاء بأحدث مؤسسة غير حكومية. يخلق الركض وراء التمويل من أجل البقاء حالة من الاستلام الكامل والإرادي في بعض الأحيان لكل ما يمليه الممول، فمن يدفع يحكم، أو أن الأنا الجمعية لهذه المؤسسات تتماهى تماما مع خطاب الآخر. مقابل ذلك فإن العيادة النفسية الخاصة ما زالت ضعيفة، وتعاني من هيمنة عيادة الطب النفسية الخاصة التي يديرها الأطباء النفسيين، والتي يتردد عليها ربما العدد الأكبر من طالبي المساعدات لأسباب نفسية. فأسطورة المؤسسة أسطورة أخرى لا تقل خطرا عن الأساطير الأخرى. تتمثل بالقاعدة الإغاثية التي يبنى عليها التدخل، والذي يحجب الأفق والآمال أمام العلاجات المتوسطة والطويلة التي يمكن أن تراكم معرفة أصلية من الحقل.
أسطورة الوصمة.
تقدم أسطورة الوصمة الاجتماعية العالمية أحيانا أسباب جاهزة لتفسير الانقطاعات في العلاجات، ويعرف الأطباء النفسيون بالتأكيد أن الكثير من الناس يترددون على العيادة، لكن القليل منهم يُعرض عليه علاجات بالكلام، يعد العلاج بالأدوية النفسية علاجا محبذا لكنه مع بروز ثورة الاتصالات بدأ في كشف أن الأدوية المضادة للاكتئاب والقلق والذهان ليست الحل الوحيد، فمن الممكن أن ترافقها أو تبدلها العلاجات الكلامية. لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من الخوف من الوصمة، ولكن ثورة الاتصالات دفعت لبروز شركات إلكترونية محلية من أجل تقديم خدمات العلاج والاستشارة النفسية، أن أكثر ما يثير الاهتمام هنا أن الفكرة هي فكرة مبرمجين شباب لاعلاقة لهم بالحقل النفسي. وبغض النظر عن النقد الذي يمكن لنا أن نمارسه على هذه المبادرة غير أنها دليل آخر على الاحتياجات المتزايدة لطلبات الاستطباب بالكلام. وتقول التجربة العيادية أن الوصمة لا تمنع الآلاف سنويا لطلب خدمات الصحة النفسية في العقد الأخير. "الحصاد كثير لكن الحصادين قلائل".
أسطورة الدمج في مرافق الرعاية الأولية.
لا يكفي أن نستسلم للإيجابية التي تمثلها السياسات التي تهدف لدمج الخدمات النفسية في مرافق الصحة الأولية والعامة، فإن هذا النوع من الدمج يجب أن لا يجعلنا نغفل العين عن الفرق ما بين هذه التدخلات والتدخلات النفسية –الاجتماعية العامة وما بين العلاج النفسي. وقد رأينا فيما سبق أي خصوصية يجب أن تفرد لخلق مهنة العلاج النفسي في مجال مستقل ( خاص) ولكنه مرتبط بجسد أو أجساد مهنية، أن الروابط والنقابات لا يمكنها أن تحقق هذه الأجسام، وإن المقصود هو مدارس وتجمعات أخصائيين/ات نفسين تتطور مع الوقت لتأسس جمعيات علاجية قادرة على التأهيل المنهي، ولا يكون هذا الأمر من خلال المؤسسة التعليمية إلا بشرط الممارسة العيادية، ولا يكون فقط من خلال تأهيل سريع للأطباء العامين والممرضين، هنا تكمن خطورة الأسطورة التي تُخضع العلاج بالكلام للممارسة الطبية، هنا يكمن مذبح اللاوعي والكلام والتحويل.
أسطورة كلية القدرة.
تترك تجربة الجلوس مكان العارف في العيادة المعالجين/ المرشدين أمام صعوبات فعلية وعاطفية قد تؤدي مع الزمن إلى التلبس والتماهي مع كلية القدرة، أو الاحتراق المهني.من المهم هنا الإشارة بأن المعالجين/ المرشدين في المؤسسات في سياق الدول القومية يتمتعون بنظام تحويلات وقادرين للوصول لخدمات مختلفة لمراجعيهم، وهو ما يقلل من شعورهم بالعجز أو بضرورة التماهي مع كلية القدرة المتمثلة بحل كل المشاكل،في حين أن المرشد / المعالج النفسي في الكثير من الأحيان في بلادنا يصبح بسهولة ممرضا، وعاملا اجتماعيا ومدرسا،لهذا فإن الأدوات الواعدة بالحلول السحرية تبدو الأكثر إغواء. ويؤدي التضخم الذي تضعه الأدوار الوظيفية على كاهل المرشد / المعالج إلى نوع من التمركز حول الأهداف المؤسساتية، ولكن أيضا في أحيان كثيرة استخدام سيء للسلطة لا سيّما في ظل انتشار مفاهيم المعالجين "الجيدين" المحاصرين في وظائف مؤسساتية لا تتاح لهم خبرة إشراف جيدة كفاية، أو التعرض للخبرات الأخرى أو التبادل القائم على دراسة النظرية وعرض الحالات. لا تقع الحاجة لتلبس كلية القدرة في مرات كثيرة خارج خطاب السيد، تمثل مهنة المرشدين في المدارس تناقض كلية القدرة الذي يفرضه طلب وتوقع التربويين من الإرشاد، ففي كل الأحوال بالكاد يشبه مرشد المدرسة نفسه.
أسطورة العلاج مهنة ككل المهن - المعالج وأخلاقياته وفردانيته.
إن السلطة التي توفرها ممارسة العلاج النفسي أو الإشراف أو التدريب تتطلب أفرادا قادرين على فهم هذا الإغواء، والتعامل معه بحنكة عادة لا تتتم إلا من خلال الإبقاء على مسار تطور مواز للخبرة العيادية في آن واحد من القضايا الأساسية التي يجب أن تراعي في تأهيل المعالجين قدرتهم على التموضع في العلاج والاستفادة منه قبل ممارسته. إن الفرد الذي يبحث عن مهنة أو تخصص سهل أو ممتع في الجامعة، ليس بالضرورة معالج أو مرشد المستقبل أو على الأقل ليس واعدا فيما يتعلق في خلق ممارسة مهنية تنجو من الأحكام والأساطير. إن أسطورة الأصحاء مقابل المرضى، والتي يعرف الكثيرون إنها أسطورة لكنهم يختارون ما يطلق عليه "لكان الولع بالجهل " تضرب في أواسط المرشدين/ المعالجين المحلين، لا يبدو أن هذه الأمر يلاقي أي أهتمام في التأهيل الجامعي، وبالرغم من أن بعض المرشدين/المعالجين قد سلكوا طريق العلاج الذاتي، غير أن آخرين لا زال موقفهم موقف الأشخاص الذين يرفضون العلاج خوفا على صورتهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين. إن المعالج غير قادر على التساؤل والشك والفضول العلاجي والتموضع للعلاج يغفل تماما بأن ذاته هي الأداة الرئيسة في هذا المهنة، أن ذاته وديناميتها وقدرتها وأخلاقياته على الاستماع والترشيح والتفسير وبناء العلاقة القادرة على خلق " transitional space"، تبقى هي العامل الأهم في ممارسة العلاج النفسي.
أسطورة التحويل كمقاومة.
واحدة من الأساطير الكثيرة عن التحويل والتي تنبع من مدرسة كاملة من التفكير التحليلي والذي يتأثر به الحقل الفلسطيني، هي أن التحويل هو شكل من أشكال المقاومة التي يجب التغلب عليها، وهو ما يضع المرشدين/ات غير المؤهلين في معضلة في التعامل مع هذه الظاهرة التحليلية الإنسانية بامتياز. أن الجدل اللكاني حول التحويل، يجعل من التحويل وبناء على توصيات فرويد واحدا من أهم أدوات العلاج، فالتحويل هو حب في النهاية، حب للذات العارفة التي ستقول لي من أنا، والتحويل المتمثل بالمشاعر السلبية أو الإيجابية ليس إلا جزءاً من مشهد أكبر من التحويل الأساسي المتمثل بالرغبة في الكلام إلى الآخر بشكل جدي وأصلي. ويصل الأمر بلكان للقول إن لا مقاومة إلا مقاومة المعالج، وهو ما يمكن أن يفهم بأن مقاومة المعالج لسماع التحويل وكل ما يقوله الكائن الناطق ضمن هذا التحويل هو ما يمنع الكثير من العلاجات من إكمال الدائرة. لكنه يكمل فينتهي إلى القول بأن التحويل هو أساس من المعالج (Lacan، 1975).
أسطورة الأدبيات العيادية الفلسطينية.
باستثناء بعض المساهمات التي يجب أن نشير أنها لأخصائيين فلسطينيين من الداخل، فإن الدراسات النفسية الفلسطينية ، تعتمد في الأساس على بيانات كمية واستمارات واختبارات نفسية على تجمعات، أي أنها دراسات في الأساس غير عيادية إذا ما كانت الدراسات العيادية هي الخوض في غمار الفردي في العيادة. وبالرغم من أن هذه الدراسات التي تحاول بأدوات عامة أن تعكس الآثار العامة للصدمة الناجمة عن العنف السياسي وحتى الاجتماعي، غير أنها لا ترفد المكتبة الفلسطينية بأية نظرة داخلية على العمل العيادي (عمرو، 2007). من المؤكد أن هذه الدراسات حالها حال المؤسسات المحلية تتأثر بشكل كبير بالسياق العالمي، لهذا فإن الكثير منها باللغة الإنجليزية وموجهة للعالم.إنها تتبع مبادئ واضحة في دراسة مفاهيم نفسية عامة من خلال الاختبارات التي تسهل عملية التعريفات الإجرائية، وفي الوقت الذي يمكن اعتبارها مفيدة غير أنه يصعب على المرء أن يخليها من تهمة عدم المساهمة في تسليط الضوء على العيادة النفسية المحلية وإشكاليتها. وكنت قد نوهت في المقدمة إلى أن هذه الدراسات في الأغلب مثلت تجليات الصدمة الناجمة عن العنف السياسي، ولكنها في هذا أبقت السر العيادي بعيدا عن الأنظار.
التلخيص.
لقد حدثت تغيرات مهمة على حقل العلاج النفسي الفلسطيني منذ عقدين من الزمن غير أن هذا التقدم لازال يفتقر لجسم عام من جهة، بالإضافة إلى افتقاره لأجسام مهنية قادرة على التبادل وإخضاع الممارسات العيادية للتساؤل والإشراف. أن الإشراف والعلاج الذاتي للمعالجين بدأ بالتحرك، ولكن الصعوبات التي يواجهها الحقل تنبع من إشكاليات بنائية نظرية ومؤسساتية ومجتمعية مهمة. ليس من أهداف هذه الورقة أن تقدم حلولا وأن لمحت لها، غير أن الحقل الآخذ بالاتساع يتطلب فلسفة جديدة في التأهيل والتدريب ومراكمة التجربة والخبرة والتبادل المهني الذي يتجاوز الارتباطات المؤسساتية القائمة، ويقوم على الإرادة الحرة في التجمع ضمن أجسام نظرية قادرة على إعادة تأهيل مرتكزة على قاعدة نظرية وعملية دينامية وقادرة على التحرك عبر تاريخ مهنة المعالج النفسي. فإن واحدا من أهم المخاطر التي تجابه مهنة المعالج النفسي هي النظر إليها من خلال خطاب عام وبعيدا عن دراسة دقيقة للسياقات التي تمارس فيها، وهذه السياقات، تقوم بتشكيل ورسم سياسات وفلسفة العلاج، وتزيد من اغترابه عن دوره الأساسي الذي لا يكف عن التساؤل حول نفسه.
إن الأساطير المحلية والعالمية التي ترافق العلاج النفسي، تضعه أمام مسلمات وتسميات جديدة يصعب مع الوقت التساؤل عنها أو حولها، أو معرفة أصولها، كما أنها تساهم من خلال اغترابها عن الأصول أو عن تجربة العلاج بالكلام في خلق حواجز إضافية أمام الأفراد الذين يتوجهون لطلب خدمات علاج بسبب اضطرابات في المبنى العام للشخصية، خصوصا أنها مع الوقت ترفض في الواقع الاستماع لهم أو لخبرتهم الفردية، ويصل الأمر أحيانا إلى تفضيل الاحتكاك الأدنى الممكن مع هذا الألم، أو التعامل باستهتار أو غرابة مع التحويل أو الحاجة المستمرة في البقاء في إطار محتوى. تبرز في المقابل أشكال علاج جديدة تعتمد تدخلات بعضها لا يمكن تسميته إلا تدخل تربوي تعليمي محض. إن فلسفة التدريبات القصيرة والأدوات الكثيرة فلسفة قد تكون فعالة في إمكانية تتوفر فيها الشروط الأساسية لتأهيل المعالجين، لكن غياب البرامج المتخصصة والجدية وربطها بالخبرة العيادية يجعل من هذه التدريبات أدوات لا يمكن تشغيلها أو حتى معرفة أسباب تشغيلها ومناسبتها للأفراد. يترك المرشدين/المعالجين الذين يفتقرون للتأهيل النظري الكافي، والقدرة على الحكم، والتأهيل من خلال العلاج والتدريب والإشراف ليصبحوا مستهلكين هائمين يبحثون عن آخر الأدوات والدورات من أجل التعامل مع قلق الفراغ في بعض الأحيان، أو قلق الواقع العيادي بما فيه من تجليات متنوعة وفرديات لا يمكن حصرها.
تبقى مجموعات القراءة والإشراف ونقاش الحالات هي الأمل الوحيد أمام المعالجين / المرشدين الجدين ذوي الشغف العلاجي في تطوير مهاراتهم، لكن هذا لا يقلل أبدا من الضرورة الأساسية في الخضوع لأنواع العلاج الكلامي ذاتها التي نستخدمها مع الأشخاص الذين يريدون التحدث إلينا. فمن خلال إعادة العمل على مفاهيم تأسيسة مثل اللاوعي، والأنا، والتحويل وغيرها من المفاهيم التأسيسية سواء التحليلة أم الأنسانية أم الجشطلتية أو النظامية، السلوكية المعرفية ، مصحوبة بقدرة المشاركة الفعلية والمستمرة في عرض الخبرة الفردية في العيادة سواء من خلال الإشرافات أم العرض ونقاش الحالات والتوجه لعلاج ذاتي، "فحيث تكون الجثة تحوم النسور"، وحيث يكون الألم النفسي يتحوط المعالجون الذين يبحوثون في التعامل مع ذواتهم أولا، قبل أن يبدؤوا بمساعدة إخوة الإنسانية.
Bibliography
Anne Clancier & Jeannine Kalmanovitch. (1999). Le Pardoxe de Winnicott. Paris: In Press Editions.
Anne Cooke and Jay Watts. (2016, 02 17). We're not surprised half our psychologist colleagues are depressed. Retrieved 02 26, 2016, from the Guardian: http://www.theguardian.com/healthcare-network/2016/feb/17/were-not-surprised-half-our-psychologist-colleagues-are-depressed?CMP=share_btn_fb
Beck, U. (1986). Risikogesellschaft Auf Dem Weg in eine andere Moderne. Frankfurt am Main: SuhrKamp.
Burkeman, O. (2016, 01 07). Psychology the Long Read. Retrieved 03 26, 2016, from The Guardian: https://www.theguardian.com/science/2016/jan/07/therapy-wars-revenge-of-freud-cognitive-behavioural-therapy
Elisabeth Roudinsco et Michael Plon . (1997). Dictionnaire de la Psychanalyse. Paris : Fayard.
Escobar, A. (1992). Imagining a Post-Development Era? Social Text , 20-56.
Freud, S. (2013). Das Ich und das Es . Stuttgart: Philpp Reclam.
Friedan, B. (1963). The Feminine Mystique. New York: W.W. Norton & Company.
Giacaman, R. (2004). Psycho-Social/ Mental Health Care in the Occupied Palestinian Territries. Ramallah: Institute of Community and Public Health.
Jean-Daniel Matet & Gil Caroz & Khalil Sbeit . (2015, 05). Victime Reel? . Quarto , pp. 50-56.
Knut Rauchfuss & Imihan Zorlu. ( 2003, 12). Trauma und Therapie. Retrieved 03 27, 2016, from Medizinische Flüchtlingshilfe Bochum : http://www.mfh-bochum.de/alte-seite/Hintergrund/Trauma-und-Therapie-Kurzversion.pdf
Lacan, J. (1975). Encore. Paris: Seuil.
Lacan, J. (1978). Le Moi dans la Theorie de Freud et dans la Technique de la Psychanalyse. . Paris: Seuil.
Lacan, J. (1991). Le Transfert. Paris: Seuil .
Laurent, E. (2008). Lost in Cognition . Nantes : Editions Cecile Defaut .
Mansour, S. (2003). Le travail psychosocial: difficultés, contraintes, enjeux. In C. Lachal, L. Ouss-Rygaert, & M. R. Moro, Comprendre Et Soigner Le Trauma En Situation Humanitaire (pp. 159-174). Paris: Dunod.
MOH. (2014). Rapport Sur La Situation Sanitaire Dans Le Territoire Palestinien Occupé. Genève: Organization Mondiale de la Sante.
Nustad, K. G. (2001). The Devil We Know? Third World Quarterly , 479-489.
Pieterse, J. N. (2000). After Post-Development. Third World Quarterly , Taylor & Francis, Ltd.
Portes, A. (1997). Neoliberalism and the Sociology of Development. Population and Development Review , 229-259.
Prempeh, E. O. (2004). Anti-Globalization Forces, the Politics of Resistance, and Africa: Promises and Perils. Journal of Black Studies , 580-598.
Rist, G. (2007). Development as a Buzzword. Development in Practice , 485-491.
Rosenthal, G. (2010). The Holocaust in Three Generations. Leverkusen Opladen: Verlag Barbara Budrich.
Vries, P. D. (2007). Don't Compromise Your Desire for Development! A Lacanian/Deleuzian Rethinking of theAnti-Politics Machine. Third World Quarterly .
Woodward, W. R. (2014). Mental Health in Palestine. the European Society for the History of the Human Sciences, July 22-25, 2014 (p. 16). Oulu: William R. Woodward.
Ziai, A. (2004). The Ambivalence of Post-Development. Third World Quarterly , 1045-1060.
المراجع العربية.
بارت, ب. (2013). حلم رام الله : رحله في قلب السراب الفلسطيني. عمان: الاهلية .
تراكي, ل. (2014). المتخيل الاجتماعي الجديد في فلسطين بعد أوسلوا. أصافات , 48-59.
ساري حنفي وليندا طبر . (2006). بروز النخبة الفلسطينية المعولمة . رام الله : مواطن .
عمرو, م. (2007). المقالات والمواد العلمية. Retrieved 3 25, 2016, from المركز الفلسطيني للأرشاد : http://www.pcc-jer.org/new/articles.php?id=118
ليزا تراكي وريتا جقمان. (2008). إجهاض الحداثة وعودتها المتجددة. In ل. تراكي, الحياة تحت الاحتلال في الضفة الغربية (pp. 25-77). بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
هلال, ج. (2006). الطبقة الوسطى الفلسطينية: بحث في فوضى الهوية والمرجعية والثقافة. رام الله : مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
هلال, ج. (2006). النظام السياسي الفلسطيني بعد أوسلوا. رام الله: مواطن.
Comments